للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[على هامش رحلتي إلى الحجاز]

ليلة في مكة

بقلم الدكتور عبد الكريم جرمانوس

أستاذ التاريخ الشرقي بجامعة بودابست

أخذ الغسق يهبط بسرعة في وادي مكة الضيق، المشبع بهواء الصحراء الجاف؛ وهنا بدأت خيوط الأصيل الذهبية تتلاشى ثم تختفي دفعة واحدة كأن ستارا أسدل عليها بغتة؛ وبعد فترة وجيزة أخذ الليل ينشر خيمته السوداء فنسينا حينذاك ذكريات الغروب الجميلة وأصبحت لدينا كحلم سافر بعيد، ثم خيم السكون وشمل المدينة كلها.

وكنت أشاهد منظر غروب الشمس من إحدى نوافذ بيتي الصغير في مكة، ولم ير الديك الذي كان يصيح طيلة النهار داعياً لإيقاف صياحه، كأن عظمة هذا الغروب لم تؤثر في نفسه، ولكن الدجاجات لاذت بالصمت وراحت تتسلق أقفاصها استعداداً للنوم.

وكان يقع في طرف فناء البيت الصغير الذي أعد لضيافتنا قسم خاص بالحريم تجلس في إحدى غرفه سيدة وقور اسمها سنية، تقرأ القرآن على ضوء مصباح خافت اللون، على حين كانت ابنتها فاطمة النحيلة الخصر منصرفة إلى أعداد طعام العشاء لإرساله إلينا مع إحدى العجائز، وحتى هذه العجوز الشمطاء كانت تتخذ كل الحيطة عند إحضارها الطعام بحيث لا يظهر وجهها، وكانت تحمل الصينية على يديها ثم تدفعها بحذر على عتبة الغرفة وتنسل راجعة، فأقوم بدوري لآخذ الصينية بمجرد وضعها على العتبة، أما الطعام فهو لا يخلو عادة من الأصناف العربية المشبعة بالتوابل

كانت هذه العجوز تحاول كما قلت أن تمنعني من رؤية وجهها، ولقد أفلحت في ذلك إلى حد كبير، فلم أر منها إلا ذلك الهيكل العظمي، ولم أسمع من حركتها إلا صوت ذلك القبقاب الخشبي الذي كنت أسمع طقطقته على الدرج حين صعودها وحين أوبتها إلى الحريم، فالمرأة في كل زمان ومكان، هي المرأة، أو ذلك اللغز الغامض، في الغرب وفي الشرق على السواء، فإذا ما دفعني حب الاستطلاع لرؤية فاطمة الجميلة، وليس هذا بمستغرب من رجل مثلي، أخذت أنظر إليها خلسة من إحدى الثغرات، ويلوح لي أن الفتاة الصغيرة كانت

<<  <  ج:
ص:  >  >>