الذين يتحدث عنهم جميعاً طواهم الموت وأحاطهم القدم بجلاله، ومحا أسماء منافسيهم الذين كانوا يعيشون معهم وبقيت أسمائهم وحدهم، وأن المعاصرين يعيشون معنا، ونحن نقرأ أسماء النوابغ وأسماء العامة، أقصد العاديين من الكتاب والفنانين، ولكن غداً سيموت الجميع، والأجيال القادمة هي وحدها التي ستدون أسماء المتفوقين الذين عاشت بدائعهم، وخلدت مؤلفاتهم، وظهرت آثارهم، عظيمة ومؤثرة وجليلة وستقول هذه الأجيال كما يقول اليوم الأستاذ أحمد أمين إن جيلها يخلو من النوابغ وإن الأجيال السابقة هي عهد المتفوقين والمبرزين.
فمثلنا مثل الذي يقف إلى جانب الجبل، لا يرى قممه، ولا سوافله، إنما يرى جسماً مسطحاً لا تضاريس فيه، فإذا بعد عنه ظهرت معالمه وبانت خطوطه واتضح له أنه عال في ناحية ومنخفض في ثانية، أو قل إن مثلنا مثل الوالد يعيش مع بنيه فلا يدري أنهم يزدادون طولاً مع مرور الزمن، فإذا غاب عنهم شهراً وعاد أدرك أن هذا أطول من ذاك، وأن أكبرهم أشد سمرة من أصغرهم، لأن طول النظر إلى الصورة لا يبرز معالمها.
المدارس انتشرت، والمعارف رخصت، ولكن النفس البشرية هي هي باستعدادها، سيبقى النبوغ فيها استعداداً لا يضعفه نظام، ولا يقويه نظام، إنما يغير فيه قليلاً.
لقد طرنا في السماء، وغصنا في الماء، ولكن لا يزال الواحد منا إذا ما خلا إلى نفسه في القمر، ثارت شجونه، وتحركت في عيونه شؤونه، تماماً كما يفعل أبن الصحراء وراكب الجمل.
وأحفادنا سيقولون - حينما يقرءون مقالنا - إننا تعجلنا الزمن، فقلنا عن عهدنا إنه عهد لا نبوغ فيه، وإنهم سيرونه عهداً ككل العهود، فيه النوابغ وفيه العاديون، فيه العمالقة وفيه الأقزام.