كانت (المدينة) يومئذ عاصمة الإسلام، وعمر الجبار العادل يحمل بيده القوية مَشعل محمد فيرسل أضواءه السماوية إلى الجهات الأربع، والفرسان المسلمون في القادسية يَثُلُّون العرش المجوسي ليقيموا على قواعده الكسروية منبر الهدى والسلام. وكانت الجزيرة العربية لا تزال معلقة بين السماء والأرض، ترفعها الروحية الإسلامية إلى أعلى، وتجذبها المادية الجاهلية إلى أسفل. وكانت مدن الحجاز الثلاثُ: مكُة والمدينة والطائفُ مظهرَ الفتوة العربية، لأنها مجمع السيادة والقوة، ومنبع الرفاهة والثروة. والفتوة العربية وإن جمعت أطراف المروءة كانت تدور على ثلاثة الشاعر الشاب طَرفَة، وهي الحب والشرب والحرب، ثم تصوير كل أولئك بالشعر الغنائي الرقيق. ولم تستطع هوادة الإسلام ولا صرامة عمر أن تكفكفا نوازي الهوى في نفوس نشأت على فتون الجهالة ومرَح الشّرك؛ فكان في أبطح مكة، وعقيق المدينة، وغزوانِ الطائف (مساحبُ من جَرَّ الزَّقاق على الثُرى) لا تزال معطرة الأديم بمناجاة الحب، ومطارحة الشعر، ومناقلة الحديث. وكان وادي العقيق في العاصمة المنورة قلما يفيض دون أن تنتظم على حواشيهِ الخضر مجالس الشراب وسوامر الأحباب يتساقون في غفلة العيون كؤوس الراح والصبابة؛ ولكنهم ما كانوا يستطيعون أن يغيبوا عن عيون العَس ولا أن يفلتوا من يد الخليفة مهما تستروا بالليل وتحصنوا بالبعد
في صبوة من هذه الصبوات الليلية الجاهلية قبض العسس العُمَري على الشاعر الفارس أبي محجن وهو عائد في نداماه من العقيق يتماوَح من السكر وينشد في تطريب وهِزَّة:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تُرَوَّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقها