وأبو محجن - إن كنت لا تعرفه - رجل من سروات ثقيف، درج في رياض الطائف وكرومه، ونشأ على فتوة أهله وصبوة شبابه؛ فهو رضيع كأس، وتِبعُ نساء، ومِسْعر حرب، وصناجة شعر، وصِنو مروءة. أسلم هو قومه في أُخريات الناس حين لم يكن من الإسلام بد، ودخل في دين الله بما ورث وكسب من عادِ الجاهلية، فأخذ يروضُ نفسه الصعبة على الوقوف عند حدود الله، فكان يخفق مراراً وينجح مرة، حتى أقنعه اليأس آخر الأمر أن لا بأس من الشراب مادام يطهره الحد، وأن لا َضْير من الحب مادامت تمحصه التوبة!
على ذلك عشق (شموس) الأنصارية وركب إلى رؤيتها المحظورة شيطانه المحتال، فتزيا بزي فلاح وعمل أجبراً في بستان يطل على دارها، فكان ينعم بالنظر والسمع، وربما تمتع بالسلام والحديث، ثم يعود فيسلسل الماء بين البقول والزهور ويتغنى بمثل قوله:
ولقد نظرت إلى شموس ودونها ... حرَجُ من الرحمن غير قليل
وعلى ذلك أيضاً كان يتتبع هو ونداماه رياض الأرض، يشربون ويطربون ثم يرجعون إلى المدينة نشاوى من القصف والعزف فلا تنم عليهم عين ولا يشي بهم لسان، حتى وَلي الخلافة الفاروق فطارد الجريمة في كل مكان، وهاجم الرذيلة في كل مكمن
- ٢ -
دخل العسس بأبي محجن وندمائه على عمر، فسألهم:
- أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله؟
فأجابه لسان القوم أبو محجن:
- كيف حرمها الله يا أمير المؤمنين وهو يقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات؟
فوقف صاحب رسالة القضاء من حجة الشاعر موقف الحائر؛ ثم التفت من حوله من صحابة الرسول يستمد رأيهم في الأمر فاختلفوا فيه. فأرسل إلى علي مرجع الفتوى وفيصل الحكم يستشيره، فقال: (أن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنزير. وأرى إن كان قد شربوا الخمر مستحلين أن يقتلوا، وإن كانوا شربوها مستحرمين إن يُحدُّوا. فسألهم عمر، فقالوا: والله ما شككنا في أنها حرام، ولكنا قَدَّرنا أن لنا فيما قال نجاة. فجعل يجلدهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده جعل يقول: