للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[رسالة الفن]

دراسات في الفن

عن فن الصوم

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

ليس الصوم تجويع البطن وحرمانه من حشوها، وإنما الصوم زهد في حاجات البدن يقصد لذاته، ويقصد لأثره. فهو نفسه انتصار لذيذ على قانون الحاجة والضعف، وهو بعد ذلك يبعث في الصائم إيماناً بإمكان التدرج بالطبع في مدارج الرقي، وإغراء بالوثوب إلى حياة الإرادة والعقل. وفي ذلك ارتفاع بإنسانية الصائم إلى درجة من النقاء الروحي لا تتاح لغير البشر من المخلوقات التي تنساق لقوانين المادة وتخضع لمطالب الأجسام فلا تملك لها رداً إلا إذا أجبرت في ذلك إجباراً وقهرت عليه قهراً. فهي في كل من الحالين مسوقة مسيرة مشدودة، بأسباب الاتصال ودواعيه، إلى أحوال وأوضاع لا دخل لإرادتها في إعدادها ولا ترتيبها، ولا توجيهها. هذا إلى ما في الصوم من تيسير التفرد، وتقريب الوحدانية، واستشعار الغنى. فكلما لوَّن الصائم الزهدَ وقَلل من حاجاته البدنية أحس حدود كيانه تتميز وتفصله عما عداه، وأدرك أنه واحد، وإن كان صغيراً فإنه نزاع إلى أن يقوم بذاته، وأن تفيض نفسه بالحياة على نفسه فهو لا يطلبها - إلا قليلاً - في لقمة من الخبز أو جرعة من الماء

ومع الإحساس بهذا الاستقلال عن مادة الحياة فإن الصوم يبعث في نفس الصائم إحساساً آخر من الشيوع يشبه ذلك الإحساس الذي يشعر به النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات، ولكن شعور الصائم لا يتجه به إلى الماديات، فهو منقطع عنها جهده، وإنما هو يتجه به إلى ما يتعاطاه ويلج فيه مما هو فوق المادة، فهذا هو ما يفطر عليه ما يغذي نفسه به، وكما أن النهم الأكول الجشع المستغرق في طلب الماديات يشعر بأنه مرتبط بالعجل لأن لحم العجل لذيذ، ولأن جلده مفيد، ولأن قرنيه نافعان، ولأن حوافره تصلح في شأن ما أو في عدة شئون، فإن الآخر الصائم يرى في العجل غير ما يراه ذلك الذي يفكر ببطنه وجلده وسائر جوارح بدنه، ويرتبط إليه برباط آخر معنوي، فهو عنده رمز لقوة

<<  <  ج:
ص:  >  >>