للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البدن مع طيبة القلب، واستسلام النفس مع تناوم العقل، فإذا آلفه فإنما يؤالفه ليتعلم منه هذه الطباع وليستخرج من تركيب بعضها إلى بعض عبرة تدله على عجز القوة ما لم يسندها الفكر، ومهانة الاستسلام ما لم تدركه اليقظة. وهكذا يصبح العجل الحيوان الواحد ذا طائفتين اثنتين مختلفتين من الدلائل والمعاني يدرك طائفة منها إنسان زهد في المادة وصام عنها، ويدرك الطائفة الأخرى إنسان زهد فيما فوق المادة وصام عنه

وليس العجل وحده هو ما يراه الإنسان ويتصل به في هذه الحياة، وإنما هو يرى كائنات كثيرة ومخلوقات عدة ويتصل بها جميعاً وفق نزعته، وإنما سقت العجل مثلاً لأن له قصة طويلة قديمة مع البشر، فكما أذله ناس وقره آخرون، وكما استضعفه ناس عبده آخرون

ولست أريد أن أنحاز إلى هؤلاء أو إلى هؤلاء، فقد كان لكل رأي وكان لكل رأي برهان، وإنما أريد أن يلتفت القارئ معي إلى صلاح العجل عند البشر للإهانة والعبادة معاً، لا لشيء إلا لأن فريقاً من الناس رأوه رأياً، وفريقاً آخر رأوه رأياً، وهؤلاء مضوا في رأيهم حتى نهايته، وهؤلاء أيضاً مضوا في رأيهم حتى نهايته، فكانت نهاية أصحاب الرأي الأول أن أكلوه، وكانت نهاية أصحاب الرأي الثاني أن قالوا إنه الله. . . وهكذا كل ما في الحياة يستطيع الإنسان أن يأكله، ويستطيع أن يرى فيه الله. . . أو أن يصل من سبيله إلى الله. . . لو هداه

ولندع العجل إلى غيره من الخلائق وآيات الله لنرى أن الناس دائماً ينقسمون أمام مظاهر الحياة إلى قسمين واضحين: قسم يزهد في كل شيء ماعدا الملموس المحسوس الذي له أثر ملموس محسوس، وقسم آخر يزهد في هذا الملموس المحسوس نفسه فلا يصيب منه إلا بمقدار ما يمسك عليه الرمق وما يحفظ عليه الحياة. وهناك - إلى جانب هذين الفريقين من الناس - قسم ثالث يتراوح بينهما فيجول مع كل فريق جولة، له فيما فوق المادة ساعات يقضيها مع نفسه ثم يعود إلى الناس فينقل إليهم ما رأى وما سمع وما أحس وما علم. وهؤلاء هم أهل الفن الذين نعرفهم من فنونهم، والذين يقول عنهم أهل الأرض إنهم أصحاب خيال وإنهم في خيالهم يعمهون بعيدين عن حقيقة الحياة، لا لشيء إلا أن أهل الأرض يعتبرون الحياة هي هذه الماديات وحدها، فما لم ينطبق عليها تمام الانطباق فهو خيال ووهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>