للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولست أريد أن أظل مع هؤلاء المتراوحين طويلاً الآن، وإنما أتركهم إلى أولئك الذين أعطوا الأغلب من أرواحهم لما حجبته المادة الكثيفة عن أغلب الأبصار والأسماع. . . أولئك يحيون، وإن لهم دنيا طويلة عريضة كهذه السموات والأرض، بل إنها أوسع من السموات والأرض، وهم يكشفون مجاهلها يوماً بعد يوم، ويغزون أطرافها ما صفت أرواحهم، وما اتجهت عقولهم بالتفكير في أسرار الوجود، فإذا هم في حياة أساسها في هذه الدنيا ولكن مهادها ووديانها عليون، وإذا هم يشعرون بعلاقات وثيقة تربطهم بكل ما في الكون من حقائق وموجودات، بل إنهم يحسون أن لهم منافع روحية وفوائد معنوية يصيبونها في الحقائق والمخلوقات كتلك المنافع التي يرجونها النهم الأكول في لحم العجل وجلده وقرنيه وحوافره، وهم ملحون وراء هذا الذي يستطيبون من الكسب كلما حصلوا منه ربحاً استزادوا الربح بالجهد والمران، فإذا هي أرباح فوق أرباح، وإذا بالفقير المعدم منهم له ثروة عجب من المعلومات والمدركات، فإذا أراد أن يستغل علمه وإدراكه وأن يخرج بهما من دائرة التحصيل والإفادة، إلى دائرة العمل والإنتاج كان الشيء الذي يصنعه خارقاً لا يستقيم مع طبائع الحياة التي تعارفها أهل المادة من الناس، وإن استقام مع طبيعة الوجود العامة التي لا يحلق إليها إلا أندر الناس الذين يشرأبون دون عشرائهم إلى ما أباحه الله للمقبلين عليه من خلقه السباقين في التقدم إليه والارتقاء إلى رضاه بإرضائه. وتقول الجماهير عندما ترى أعمال هؤلاء إنهم سحرة. . . أو أنهم أصحاب معجزات.

وهذه الأعمال الإيجابية التي يقوم بها هذا الفريق من الناس تختلف وتتعدد مظاهرها وألوانها باختلاف اتجاهاتهم وما يتخصصون فيه من العلم، وليس تخصصهم في العلم شيئاً غريباً، فعلماء المادة يتخصصون هم أيضاً في دراسة نواحيها. . . لكل منهم ناحية. . فمنهم مهندسون، ومنهم أطباء، ومنهم من ينفقون حياتهم في دراسة القوانين التي كتف الناس بها الحياة، كذلك أولئك منهم من يتجه إلى نفسه فيدخل فيها فيعلم من شؤونها ما يعلّمه الله إياه، ومنهم من يدخل في نفوس الناس، ومنهم من يدخل في نفوس الناس والحيوان. . . بل إن منهم من يتجه إلى المادة نفسها فيغزوها بالروح غزواً فيشق البحر ويقلب العصا إلى حية والحبل إلى ثعبان!. .

ويضطرب الناس ويرتبكون حيال هؤلاء الزهاد الأنبياء. . . فيقولون إن محمداً صلوات

<<  <  ج:
ص:  >  >>