يعرف كل قراء الجاحظ تلك الخصومة الحادة العنيفة التي أثارها أبو عثمان، في أول كتابه الحيوان، بين الكلب والديك، وتلك المناظرة الطويلة المسترسلة المفتنة شتى الأفانين، والذاهبة في شتى مذاهب الكلام بين صاحب هذا وصاحب ذاك؛ دون أن يكون بينهما - في حقيقة الأمر - خصومة، أو سبب يدعو إلى المناظرة، وإنما هي عبقرية الجاحظ التي لا تفتأ تبدع وتبتكر، وأسلوبه المتدفق الذي لا يألو يشقق الكلام ويولد المعاني والصور. ذلك الظن السائد نلجأ إليه كثيراًُ في تفسير مثل تلك المناظرة الغريبة. ولكني أحسب أن الأمر بين الكلب والديك أعجب من أن يكتفي في تفسيره بتلك الصفة الغالبة، والنظرة العاجلة المقاربة.
فلقد أطنب الجاحظ في تلك المفاضلة إطناباً غريباً، حتى كسر عليها جزءين كبيرين من كتابه، لعلهما يقربان من ثلثه؛ ثم كأنه لم يكتف بذلك، فترى حديث صاحبه الكلب وحديث مناظره صاحب الديك يتخللان الأجزاء الأخرى.
ثم إن هذه المفاضلة غريبة أيضاً في كتاب الحيوان، فقد سار الجاحظ في أبواب الكتاب التي تلي ذلك الباب على منهج غير ذلك المنهج، فليس إلا وصف الحيوان، وبيان عاداته وطبائعه، ومزاياه ومساوئه، ورواية النوادر عنه، والآثار الأدبية التي تدور حوله، وحكاية كلام بعض علماء الحيوان والمعنيين بأمره، مثل أرسططاليس وأقليدون، دون أن يعرض للمفاضلة بين هذا الحيوان وذاك، إلا قليلاً لا نكاد نلحظه. فالأمر بين الكلب والديك إذن ليس متمشياً مع طريقة الجاحظ في الكتاب عامة، فما الذي جعله يميزه من غيره، ويسلك فيه أسلوباً على حدة
وأخرى لا سبيل إلى الإغضاء عنها، وهي وجه اختيار هذين الحيوانين بالذات ليكونا موضعاً للمقارنة والموازنة والمفاضلة وما من سبب، فينا يبدو، يجمع بينهما، أو يدع سبيلاً للتنظير والتفضيل. ولعل السبيل بين الضب والنون أو بين الملاح والحادي كما يقول البلاغيون أكثر استقامة مما هو بين الكلب والديك. ولو أن الجاحظ يريد المقارنة وحدها،