للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمقابلة بين خلقيهما، لكان ذلك مستساغا؛ أما أن يجعلهما خصمين، وينصب لكل منهما صاحباً يهاجم باسمه، ويدافع عنه، ويناضل دونه، دون أن يكون بينهما جامعة طبيعية إلا جامعة الحيوانية، فأمر لا نستطيع أن نصفه إلا بالغرابة. فهلا ناظر بين الفيل والبعير، أو بين الثعلب والذيب!!

ورابعة تلفت نظرنا، وتثير دهشتنا، وهي ما أشار إليه في أول كلامه من أن هذه المناظرة كانت تثور بين شيخين من علية المتكلمين، ومن الجلة المتقدمين، فما للمتكلمين ولهذا؟ وما شأن الكلب والديك في الكلام على الصفات والقدر، أو المناظرة بين النار والمدر؟! لسنا ننكر أن من أول ما كان يعنى به المتكلمون، وخاصة المعتزلة، بيان دقائق صنع الله في الكون، وحكمة الله في الخلق، على نحو ما في رسالة (الدلائل والاعتبار على الخلق والتدبير) لإمامنا الجاحظ. فهل نستطيع أن نفهم أن تلك المناظرة إنما كانت تأخذ هذه السبيل وتتجه إلى تلك الغاية؟ إن من العسير أن نقنع أنفسنا بهذا في مثل ذلك الذي صوره الجاحظ بين الكلب والديك. وإذا أجزنا ذلك بوجه من الوجوه فأنا نتساءل مرة أخرى: ما بالهم لم يختاروا من جميع الحيوان موضوعا لهذه المناظرة إلا ذينك الحيوانين - على ما في المفاضلة بينهما - فاقتصروا عليهما، ولم يعدوهما؟

فالمسألة كما يرى القارئ الكريم غامضة، لا يكفي في بيانها ذلك التفسير العام المبهم الذي يفسر به أسلوب الجاحظ جملة واحدة.

إن ذهناً دقيقاً كذهن الجاحظ مارس الفلسفة وأساليب المتكلمين، حتى صار رأساً لطائفة من المعتزلة تدعى باسمه، ليس من القريب احتماله أن يأخذ في الكلام اعتباطاً، فيناظر بين الكلب والديك وليس بينهما وشيجة أو سبب. فإذا كنا لا نرى بينهما صل ذاتية، فلا بد أن تكون بينهما صلة أخرى خارجية، هي التي مهدت السبيل للمناظرة، فما هي هذه الصلة وأين نلتمسها؟

هل هناك صفات أضيفت إلى الكلب تقابل صفات أخرى أضيفت إلى الديك بحيث يكونان متناظرين؟ أما أننا يجب أن نتلمس ذلك تلمساً في روح العصر الذي كتب فيه الحيوان، وفي التيارات الاجتماعية التي كانت سائرة فيه، وفي الآثار الأدبية التي بقيت لنا حول هذين الحيوانين.

<<  <  ج:
ص:  >  >>