للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[صفحة من التاريخ]

مأساة وقعة انبابة

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

علة الشرق هاهي: حاكم يسطو ويعبث بالقطيع الذي هو حارسه، ويبطش به بطش الذئب إذا عدا في غيبة الحارس الأمين، فتجفل الشياه ذات اليمين وذات الشمال. ويتقدم من هنا أو من هناك كلب جريء يحاول أن يدفع الغائلة عن شياهه. فإذا هو يرى سيده الحارس هو الذي يبطش ويفتك. فيضع ذيله بين رجليه، ويكتم عواءه في حنجرته، ويجري إلى ناحية يكشر عن أنيابه منفرداً وهو متخاذل مهدود العزيمة. لو كان ذلك العادي ذئباً حقيقياً لما وضع الكلب المسكين ذيله بين رجليه، بل لرفع ذيله وعدا عامداً إلى رقبة ذلك الذئب وأنجى منه القطيع. فأما والذي يفتك بالقطيع هو حارسه، وأما والذي يبطش به هو الرجل الذي اعتاد أن يحمل هراوة ويسطو بها على رأسه يكاد يحطمه، فأمر آخر. وللكلب كل العذر إذا هو التمس العافية في مهرب من مهارب المرعى، أو في مكمن من مكامن الوادي. ولا لوم عليه إذا هو فعل. كان (خوارزم شاه) حاكم خوارزم (أو بلاد ما بين سيحون وجيحون) في أوائل القرن الثالث عشر المسيحي، حاكماً جباراً عاتياً. وكان لا يتردد عن مظلمة، ولا يحجم عن إيقاع. فكم مثلَّ بتجار من بلاده، وسجن وعذب ونهب. وكم مثل بتجار من بلاد جيرانه التتار، وسجن وعذب ونهب. ولم يقف أذاه عند هذا الحد، بل تعدى إلى الدولة التي هو حاكمها، ففت في عضدها وخضد شوكتها، وحطم عودها حتى صارت بلاده شعباً مشدوهاً وحكومة منحلة مضيعة.

ثم كانت الكائنة التي لابد منها في بلاد مثل بلاده، فأغارت جيوش جنكيز خان على أطرافها فعجمتها، فإذا هي رخوة جوفاء، فتقدمت فيها وأوغلت، فلم تجد من الطاغية إلا جباناً، ولم تر منه إلا حرصاً على نفسه وماله وأهله. فما هو إلا أن رأى الجد من أعدائه، وأحس بما كان لابد منه من ضعف ومن عجز، حتى ترك البلاد وهرب إلى مأمن ليلتجئ أليه، وبقى الناس حيارى بعد هربه يحاولون الدفاع وما لهم به من قوة، ويرجون النجاة وأنى لهم ذلك وقد اقتلع الطاغية جذور القوة من الشعب لتلين له قناته، فلانت قناة الشعب له حقيقة، ولم يستطع أن يقاوم طغيانه ما بقى للطغيان، حتى إذا ما أتاه العدو وألفى نفسه

<<  <  ج:
ص:  >  >>