عاجزاً، ترك ذلك الشعب المسكين وهو أعزل ذليل عاجز عن حماية نفسه. فكانت الكارثة، وذهب الطاغية وشعبه كلاهما ضحية لعواقب الطغيان.
هذه سُنة الطغاة أبداً، وهذه سنة الكون منذ نشأَ. وما كان للقرن الثامن عشر أن يحيد عن سنة الكون التي نكبت خوارزم في القرن الثالث عشر. فقد كانت مصر في القرن الثامن عشر تحت طاغيتين من طغاة البشر: مراد وإبراهيم، وكانا كسائر الطغاة قصيرة النظر مفلولي العزيمة، لا همة لهما إلا في صغائر الأمور والأنانية. ولسنا بسبيل وصف ما كان عليه حكمهما من الميل والاعوجاج، ولا ما كان عليه خلقهما من الشناعة والفظاعة، فقد يكون لهذا حديث آخر، وإنما نقصد من كلمتنا هذه وصف حال البلاد عندما أزمت الأزمة التي كان لا محيد عنها، ووقعت النكبة التي كان لابد منها من وراء حكمها.
جاء الفرنسيون إلى ثغر الإسكندرية، وأصبح الصباح وإذا أهل ذلك الثغر يرون الجنود يخالطونهم، ويترددون فيما بينهم. وكان الفرنسيون يحملون سلاحاً عجيباً غريباً، لا عهد لأهل الثغر به، فما كان عهدهم بالجنود إلا هؤلاء (الانكشارية) الذين يقيمون في القلاع بين ظهرانيهم يدخنون الشبقات الطوال، ويطولون شواربهم، ويعلون أصواتهم بالسباب، ويمدون أيديهم بالأذى، ولا يحملون من السلاح إلا تلك البنادق العتيقة الرثة التي أكلها الصدأ وعفي عليها القدم.
وتقدم الانكشارية نحو الجنود الفرنج ليدفعوهم عن الإسكندرية، فما هي إلا جولة قصيرة حتى رموا بما في أيديهم من الأسلحة العتيقة، وهرب من استطاع منهم الهرب إلى حيث يجد لنفسه مأمناً.
ورأى أهل الإسكندرية إن هؤلاء الجنود ليسوا سوى شوكة في جوانبهم في السلم، فإذا حل الحرب فهم لا يدفعون أذى ولا يرجى منهم غير الأذى. فوقفوا بعضهم يشجع البعض، وأحدهم يساعد الآخر، يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم الحماية بسواعدهم. فتحصنوا في المنازل وجعلوا في كل ركن متراساً، وفي كل حائط مرصداً. غير أنهم واحسرتاه أرادوا الدفاع ولم يستطيعوه، فإذا بالعدو يحصدهم حصداً، ويدك بيوتهم دكاً، ويجتاح متاريسهم اجتياحاً. فسلموا للعدو ونزلوا على حكمه، وصار الفرنسيون في ساعة أصحاب الإسكندرية.