يصدق الشطر الأول من بيت أبي العلاء المشهور على الشرق في موقفه اليوم من الغرب. سواء أصدق الشطر الثاني أم لم يصدق، ولا يسع الشرقي في بلاد الغرب إلا أن يتمثل به ما بين آن وآخر. فالشرق كما قال الاستعماري كلبنج ما زال شرقاً والغرب غرباً وكلاهما جاهل بالآخر، والغرب أجهل بصاحبه. الشرق مخدوع في الغرب يحسبه أرقى مما هو عليه، والغرب مزدر للشرق يظنه أحط مما هو في الواقع.
صورة الشرق في ذهن الإنجليزي وإن يكن متعلما صورة خيالية. تحوي أمراء مترفين عائثين ورعايا كادحين مخشوشنين. صحارى وغابات تجيش بغوائل الوحش والإنسان. ورجلا أبيض ينشر الخير والبركات ويبدل الشرور منافع محتسبا لا يبغي غير وجه المدنية ورضى الانسانية. فان جاء أحد أبناء تلك البلاد يفهم ذلك الواهم أن تلك الصورة القصصية التي ربما انطبقت على بعض نواحي الهند في غابر الأيام لا تنطبق على الشرق اليوم. وأن الشرقيين ليسوا موغلين في الجمود والتشبث بالقديم كل ذلك الإيغال، وإنما هم فضلا عن عراقة حضارتهم يسعون جهدهم - وقد ظهرت مدنية أوربا على غيرها من المدنيات - أن يأخذوا بأسبابها ويسايروا عصرها، إذا أراد الشرقي أن يشرح ذلك للإنجليزي الذي لم يبرح بلاده انصرف عنه معرضا. لأنه يراه يفسد عليه صورته المحبوبة التي يألفها ولا يريد فراقها
ومهما أطنب الإنجليزي في روعة الشرق وثروته ولآلائه وفتنته. ومهما ود لو تتاح له مشاهدة كل ذلك فانه يعود - إذا ما تأمل الصورة الموصوفة - إلى نفسه مغتبطا ويحمد الله من صميم قلبه على أن خلقه إنجليزيا مسيحياً لا عربياً مسلماً ولا هندياً بوذياً، وقدر له أن يقضي حياته في ربوع المدنية لا بين أكناف الهمجية
فلا عجب أن ينظر الإنجليزي إلى نزلاء وطنه - ولا أقول ضيوفه - من الشرقيين نظره إلى أطفال كبار جاءوا ليتلقوا في بلاده طرق الحياة وسبل المدنية، ويتوهم أنهم حين وطئوا أرضه طرحوا عاداتهم وتقاليدهم وأزياءهم المتأخرة جانبا، واستبدلوا بها الطرق الإنجليزية الراقية، وبدءوا حياة جديدة، ولا عجب ان يضمر لهم كثيرا من الازدراء وغير قليل من الكراهية.
قابلت في بعض جولاتي في إنجلترا إنجليزيا يعمل في السودان كان يقضي عطلته في