كنت في مكتبي مساء الأمس أتحدث إلى قصصية شاعرة جاءت تهدي إليَّ قصة للتقريظ، وقصصي كاتب جاء يقدم إلي أقصوصة للنشر. وكان من مطارحات الحديث أن تكلمنا في نصيب الخيال والواقع من قصة الأديبة وأقصوصة الأديب؛ وجرى على الألسنة الثلاثة كلام في روعة الواقع المحض، وزخرفة الفن البارع، وجاذبية الخيال الممكن. وكأنما كان يدافع عن الحقيقة مدافع من وراء الغيب فأدخل علينا فتى ذاوي الفتوة ضارع الجسم، ألف القَدر من شقائه مأساة لا يحتاج الكاتب في سردها إلى تلفيق خياله أو تزويق فنه
قرأ هذا الشاب ما كتبناه عن بعض من عرفنا من فرائس البؤس، فظن لبراءة فكره وسلامة صدره أن ما نكتبه عن هذه المآسي الأليمة يصادف من أولي الأمر استماعاً واقتناعاً ورحمة، فأراد آخر الرأي أن يسمعهم أنينه الموجع من هذا المكان القريب. ولو علم فتانا أن القدرة صفة من لا يرحم، وأن الرأفة خُلق من لا يستطيع، لأدرك أن كبراءنا وأغنياءنا يقرءون مآسينا للتلهي والفن، كما نقرأ نحن ملاهيهم للتسلي والعَجب. فإذا كانت لهم عيون فعيونهم من غير دموع، وإذا كانت لهم قلوب فقلوبهم من غير شفقة. ولكنه أخذ يستريح إلينا بما كابد من باطن الهم ومكنون الأسى، فأخذت الكاتبة تنهنه عبرة سالت على الخد، وأخذ الكاتب يعجب أن يبلغ البؤس بالناس إلى هذا الحد، وتركا لي أن أقص عليك فصلا من هذه الرواية:
في المنصورة أيضاً بلد المال والجمال والشعر، سطر الدهر المصرِّف في سجل الألم الإنساني هذه المأساة. كان أبوه من كبار التجار في هذه المدينة؛ وكانت يداه كيدي الخازن الماهر في المصرف العظيم تسيلان في الأخذ والعطاء ورقاً وفضة. وكان معدوداً في سراة القوم، يعيش عيش المترفين المسرفين، يطلق نفسه في العز، ويقلب أهله في النعيم، وينشِّئ أطفاله السبعة على كبر النفس ورفعة الهوى وبُعد الأمل. واتسق له الحال وواتاه الحظ الناهض فظن أمره قد عظم على الأيام واعتصم من الطوارق، فأغفل المواظبة والمراقبة، وأهمل المراجعة والمحاسبة، فصار الداخل لا يسجَّل، والخارج لا يحصَّل؛ واجتمع عليه