العدوان السخيان: التاجر المصدِّر الذي يعطي ولا يأخذ اعتماداً على الضمان، والشاري المستهلك الذي يأخذ ولا يعطي اتكالاً على الأمانة. وظلت الأمور تجري في مجاريها اليومية، تُفرغ صناديق البضاعة ليلاً في المخازن، ثم توزع على الناس نهاراً في الحوانيت؛ ولا يعلم إلا الله والتاجر ما في هذا الرواج العظيم من البوار، وما يبطنه هذا الربح الموهوم من الخسارة
وكان هذا الفتى وهو بكر أبيه قد نجح في امتحان البكالوريا بقسمها العلمي حين نزلت بهذا التاجر المغرور علة فادحة. وأعان المريضُ العلة على نفسه بما انكشف له من سوء الحال وظلام المستقبل فقضت عليه
جلس الفتى في المتجر مكان أبيه الراحل وهو يكفكف عبرات العين بالصبر، ويخفف حسرات القلب بالرجاء، وفي اعتقاده أنه سيبني على أساس مكين ويصعد على رأس مال ضخم. فلما خطا الخطوة الأولى تفتحت أمامه الهُوَى، وتفجَّرت حواليه النوازل؛ فعاد ينظر في المخازن ويبحث في الدفاتر فوجد الخطر الذي لا يدفع، والقضاء الذي لا يُرد. وحاول أن يتفق مع الغرماء والحرفاء فلم تساعده فداحة دَينه. وطرءاة سنه على هذا الاتفاق، فاستغرق بعض الدين كل التركة، وأعلنت المحكمة إفلاس المتجر. . .
وفي عشية وضحاها فقدت الأسرة المدلَّلة وسيلتها للعيش ومكانتها في المجتمع، فلم يعدْ لها بعد الله عائل ولا وائل غير هذا الشاب وشهادة يحملها عليها طابع الحكومة وخاتم وزير المعارف بأنه تربى وتعلم، فمن حقه أن يمارس شؤون الناس ويلي أمور الدولة. فانتقل بأسرته إلى القاهرة، ثم أخذ يقطع السبل المؤدية إلى الوزارات كل صباح وهو فخور بشهادته، مدل بكفايته، فلم يدع باباً من أبواب الدواوين إلا طرقه. ثم ألح في الطرق رجاة أن يصيخ إليه سمع فلم يشعر بوجوده غير السعاة والحجاب، فاتسعوا له حينا ثم برموا به فنهروه وطردوه. وأدرك المسكين بعد لأي أن الشهادة من غير مدد ورقةٌ عليها مداد. فأخذ يلتمس الشفاعة عند أرباب السراوة والجاه. ولكن الشفاعة في أيامنا أصبحت حرفة لا يبذلها الشفيع إلا لمن يبذل فيها المال أو العرض. فكان الفتى كلما سمع برجل من رجال النفوذ قصده وقص عليه قَصصه، فلا يكاد الرجل العظيم يعلم أن له أخوات في غَيسان الشباب، وأمَّا لا تزال في ربيع العمر، حتى تحوم نفسهُ على الخِدْر الذليل، فتثور الحمية بالفتى فلا