كانت المحاضرة الأخيرة للأستاذ ساطع الحصري هي:(نشوء الفكرة القومية في البلاد العربية منذ الحرب العالمية الأولى حتى تكون جامعة الدول العربية)؛ وقد ألقاها يوم السبت في الجمعية الجغرافية الملكية، فختم بها بحثه القيم في نشوء القوميات في بعض البلاد الأوربية وفي تركيا وفي البلاد العربية، وقد استعرض في كل هذه البلاد الحوادث والتيارات الفكرية الدالة على أن القومية نشأت وتكونت في كل منها على أساس اللغة والتاريخ.
وقد أشار في بدء هذه المحاضرة إلى الاتفاق الذي تم قبيل الحرب العالمية الأولى بين العرب والأتراك، والذي يقضي بجعل التعليم في المدارس باللغة العربية بدل التركية وبإشراك العرب في بعض المناصب والهيئات النيابية، فقال إن هذا الاتفاق قوبل بالارتياح من الجانبين، ولكن التيارات السايسية المختلفة ظلت آخذة في مجراها، وجدت حوادث منها الانتقام من زعماء العرب واضطهادهم، مما بث فكرة الثورة في نفوس العرب، حتى حانت الفرصة، وقامت الثورة العربية فعلاً ضد الدولة العثمانية، وتقدم الجيش العربي إلى سوريا، وكان يساعده الإنجليز والفرنسيون، وتكونت دولة عربية في قلب سوريا، فقوي الشعور بالقومية العربية وبلغ الحماس لها أشده، وغذاها الكتاب والشعراء.
ولما انتهت الحرب كان الانتداب الفرنسي من قسمة سوريا ولبنان، فأخذت فرنسا تعمل على إضعاف القومية العربية بالطريقة التي تتبعها في شمال إفريقية، فكما كانت تقول لأهل تونس والجزائر، إنهم ليسوا عرباً، وإنما هم من سلائل الرومان، وتمنع التعليم باللغة العربية وتقصره على الفرنسية فيما عدا القرآن؛ كذلك كانت تصنع مع السوريين، وخاصة المسيحيين منهم الذين كانت تقول لهم إنهم من سلالة الصليبيين؛ وعلى الرغم من كل ذلك وغيره من الوسائل ظلت القومية العربية متمكنة من نفوس العرب في سوريا ولبنان. أما في العراق فلم تقاوم الفكرة العربية، لأن الإنجليز كان أكبر اهتمامهم موجهاً إلى الاستراتيجية والشئون الاقتصادية؛ واشتدت العروبة في فلسطين لقوة الشعور بها أمام الصهيونية.