يذكرنا كر الغداة ومر العشيّ وما فيهما من نُعمى وبؤسى، وشدة ورخاء، وإقبال وإدبار - تقلب الأحوال وتبدلها في هذه الحياة. ويذكر كل أحد من الخلق بطي صحيفة من صحف الأجل، وبالخاتمة التي لا معدى عنها، وفي ذلك عبرة. (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب)
ويذكرنا العام الهجري خاصة بأكبر حادث في تاريخ الإسلام له أجمل الأثر في انتصاره، وفيه أكمل عبرة:
شريف من أشراف قومه، وقومه من أشرف الأقوام؛ ورجل قوي الخلق، حلو الشمائل، فصيح اللسان، قوي البنيان، كامل الإنسانية، مهذب الطبع، رضي النفس، شجاع مؤيد بالوحي الإلهي وبقوة الحق - ينبو به وطنه ومكان مولده، فيهجر أرضاً حلت فيها تمائمه، ويفارق دياراً عرفها وعرفته، ومشاهد حلت لنفسه واتصلت بها، وأهلا وإخواناً أعزاء
رجل هذه صفاته، وتلك مكانته، يضيق لها صدر القوم، ويتنكر له الناس، ويكيدون له حتى يخرجوه! رجل هذه صفاته، يفارق دياره وأهله؛ ولو لم يكن صاحب دعوة إلى الحق والى غير ما ألفه الناس وأخذوه عن الآباء والأجداد، لكن المحبب إلى النفوس، والمرموق بالأبصار، والمفدى بالأهل والولد. لكن الحق أزعج الباطل فلم يطق صبراً، ودفع أهله إلى قتله أو إخراجه؛ (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين)؛ وغطى على القلوب فأفسد على العقل ملكة التقدير (وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا، ولو نشاء لقلنا مثل هذا، إن هذا إلا أساطير الأولين)
هذا موضع العبرة
وليس من غرضنا أن نلم بتاريخ الهجرة وما لابسها، فذلك معروف في السير، كذلك ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وما أصاب صحبه المتقين من جهد البلاء، وجهل الجهلاء،