الأجسام الإنسانية معرضة للأمراض كسائر الكائنات الحية؛ وقد تعطل الأمراض وظائف الأعضاء أو تضعضعها. ومن الأمراض ما هو خاص ببعض البلاد أو بعض البيئات. وحال النفوس الإنسانية لا يختلف عن الجسوم: تصاب بالجهل، وبالعناد، وبالغرور، وبالحرص على لذات الدنيا من مال وثراء وجاه وعزة، وبالحقد على أصحاب النعم موروثة ومكتسبة، وبحب الانتقام والإسراف فيه، وبحب ما هو موروث عن الآباء والأجداد من مال وعقار وصفات وخلال وعقائد وتقاليد
مثل هذه النفوس المريضة لا يسهل تحولها من الشر إلى الخير، ولا يسهل قبولها الحق وهي بحاجة إلى داع قوي بصبره، قوي بحجته، فيه من المناعة الخلقية ما يقوى به على احتمال الأذى والمكروه في نفسه وذويه، وعلى احتمال ما يرمي به مما يستفز الحليم، ويستنفد صبر الكريم، ويعجب له الرجل العادي، وبعده ضعيف الطبع شذوذاً وخروجاً عن المألوف. تجمعت هذه الأمراض في قريش فاستعصى العلاج وتحير الحق، ولم يكن أمامه إلا أن يخلد إلى الذلة والاستكانة، أو يفر بنفسه من عنت الباطل إلى أن يجد السبيل ويعد العدة لمنازلته؛ فليست هذه البيئة مما ينفذ إليها ضياء الحق بالدليل والحجة، بل هي في حاجة إلى السيف يضرب الرقاب ويفلق الهام، والى أسنة الرماح تصل إلى القلوب فتشعرها بوجوب التنبه والإصغاء إلى صوت الحق. تلك أسباب الهجرة. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيئة الموبوءة خوف أن يختنق الحق في مهده، ورجاء أن يجد له متنفساً في أرض حرة تحضنه، وأن يجد له قوة تعينه، حتى يحين الأجل المضروب، ولكل أجل كتاب
هاجر وتم له ما أراد، إذ فتح الله له فتحاً مبينا وأعز دينه وأعلى كلمته ونصر جنده، ودانت له تلك القبائل التي ناصبته العداء، ولم يرض إلا بعد أن رضي الحق وانتصر، وبعد أن انتصر غفر. فهو خادم الحق وأمينه، وناصره ومعينه، لا يرى أن نفسه له، ولا أن أهله له، ولا أن شيئاً في الحياة له، بل كل شيء عنده وفي مقدوره للحق وفي سبيل الحق. ولم يكن السيف في يده إلا مشرط الجراح يبتر به ما فسد من الأعضاء، ولم تكن الأسنة إلا الإبر التي يبزل بها الطبيب مكان الداء ليخرج أذاه. وليس بدعاً من الحوادث حادث الهجرة