للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[في ذكرى مولد الرسول]

على جبل النور

قضى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خمساً وعشرين سنة في شعاب مكة وبطاحها يتيماً فقيراً ثم راعياً صغيراً، ثم تاجراً أجيراً، فلم ينعم بدفء الفراش كمن له أم، ولم يجلس أمام المعلم كمن له مال؛ وإنما تولى الله تأديبه وتهذيبه، لأنه أراد لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده وسلطانه أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقرأنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع للعقول، وكلمته أعلق بالأفئدة، فكمله بالخلق العظيم والحياء الوقور والصبر المطمئن واللسان الصادق والذمة الوثيقة والقلب الشجاع، ثم طهره من أرجاس الوثنية وأوزار الجاهلية، فلم يشرب الخمر، ولم يأكل الربا، ولم يلعب الميسر، ولم يشهد اللهو، ولم يعن وجهه لصنم.

ثم شاء الله لمصطفاه أن ينعم بسكينة القلب ورفاه العيش خمس عشرة سنة أخرى بعد ذلك في ظلال زوجه الغنية الوفية خديجة بنت خويلد استعداداً لأعباء الرسالة وكاره الدعوة ومجاهدة الشرك. وكان النبي الكريم في هذه الفترة الهادئة السعيدة يؤثر الوحدة ويطيل السكوت ويديم التفكير: يفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في أمر قريش والعرب، ويسأل نفسه: من الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، ودبر أمر هذه العوالم، ونظم سير الكواكب؟ فتجيبه: إله آخر غير اللات والعزى ومناة، لا يحل في بشر، ولا يتمثل في حجر، ولا يتحيز في مكان. فيفكر محمد ويطيل التفكير، ويبحث النبي ويعمق البحث، ويتعبد المتحنث ويكثر التعبد. فإذا جاء شهر رمضان من كل سنة، هجر المهاد اللين، وفارق الزوجة الحنون، وتزود الزاد اليسير، ثم صعد إلى جبل حرّاء على ١٥٠٠ متر من شمال مكة، ليستعين بالصوم والاعتكاف على استجلاء الحقيقة. وهنالك على قمة الجبل المخروطي الشاهق، وفي صمته الملهم الرائع، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق. فإذا جنه الليل أرسل نظره وفكره في أشعة القمر أو في أضواء النجوم، يستطلع المجهول، ويستجلي الغامض، ويرقب انبثاق النور عن الخالق، وانكشاف الستور عن الحق. حتى إذا أجهده التفكير وأرهقته الحيرة، آوى إلى الغار الموحش النابي فيستلقي على صخره سويعات ثم يستيقظ قبل أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>