تغور النجوم، فيتعبد ويتجه بروحه اللطيف الصافي إلى الملأ الأعلى، حتى يتهيأ بطول الرياضة والعبادة والخلوة إلى تبليغ الرسالة، فرأى في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان من السنة الحادية والأربعين من مولده صلوات الله عليه وهو نائم في الغار أن رجلاً جاءه بنمط من ديباج فيه كتاب وقال له: أقرأ. فأحس كأن الرجل يخنقه ثم يرسله ويقول له: أقرأ. فقال: ما أقرأ. فعاد إليه بمثل ما صنع وقال له أقرأ. فقال له: ماذا أقرأ؟ خشية أن يعود إليه بمثل ما فعل. فقال له:(أقرأ بأسم ربّك الذي خلق؛ خلق الإنسان منن علق؛ أقرأ وربُّك الأكرم؛ الذي علّم بالقلم؛ علّم الإنسان ما لم يعلم) فقرأها وانصرف الرجل عنه وقد نقشت في لوح قلبه.
وما لبث أن هبَّ من نومه فزعاً مذعوراً يدير بصره في الأرض، ويجيل طرفه في السماء. ثم تمثل له في اليقظة ما رآه في المنام فأدركه الخوف على نفسه فأنطلق مسرعاً إلى السكن الذي يسكن إليه، وإلى الصدر الذي يحنو عليه، فتلقته خديجة بالنظر المشفق والقلب العطوف، فقال لها وهو ينتفض كأن به مساً من الحمى، زملوني فزملته، حتى إذا ذهب عنه الروع وعاودته السكينة، نظر إلى زوجه نظر اللائذ العائذ وقال لها، يا خديجة، مالي؟ وحدثها بالذي رأى، فطمأنته وقالت له:(أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمّة. والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
وفتر الوحي مدة جزع لها محمد وقلقت خديجة، ثم نزل على قلبه الروح الأمين بقول الله تعالى:(يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر) فقام بأعباء الرسالة والتبليغ ثلاث سنين في طي الخفاء، حتى أوحى الله إليه:(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، وأنذر عشيرتك الأقربين) فعالن بالدعوة قريشاً وسفه أحلامها وعاب أصنامها، فكاشفوه بالعداء، وقصدوه بالإيذاء، وهو يتقي كيدهم بجنة صبره وعدة إيمانه، ومن وراءه عمه أبوطالب يذود عنه ويحميه، وزوجه السيدة خديجة تواسيه وتقويه. ولكن قريشاً أنذروا أبا طالب لئن لم يكف أبن أخيه عما هو فيه ليقاتِلَنَّهُ هو وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فلما أعاد أبو طالب قولهم على سمع الرسول أجابه ذلك الجواب الذي خيَّس أنف الشيطان، وغيّر وجه الزمان، وحسم الأمر بين التوحيد والشرك، قال: والله يا عمُّ، لو وضعوا الشمس في يميني،