للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونَهُ) فلم يسع العم النبيل إلا أن يقول له: (أذهب يا أبن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيءٍ تكرهه أبداً).

عند ذلك تألبت على الرسول عناصر الشرك جمعاء، فأصيب في بدنه، وأتهم عقله، وأوذي في أهله، وعذِّب في صحبه. ثم فجعه الموتُ في عمِّه الشهم وزوجه المخلصة في يومين متقاربين من ألسنة العاشرة للرسالة، فأشتدَّ عليهما حزنه، وحرج بعدهما في مكة مقامه، فخرج منها إلى الطائف يدعو ثقيفاً إلى الله فأغروا به صبيانهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه، فلجأ إلى بستان يعصمه منهم، وتفيء شجرة من شجر الكرم وهو يدعو الله ويقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربّي. إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي).

ولما نبت قفار مكة على الغراس الإلهي انتوى الرسول الهجرة بالمسلمين إلى المدينة، وقد أسلم فيها جماعة من الأوس والخزرج، فأحس المشركون منه هذا العزم فائتمروا به ليقتلوه. ولكنه خرج ليلة اجتماعهم على قتله هو وصديقه أبو بكر إلى طيبة، تكلؤهما عين لا تغفو وقوة لا يقام لها بسبيل. وهنالك تجلّت في الرسول مواهب الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس، فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثر باللسان، وقهر باليد. وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل. فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة؛ كان رسولاً في الدين، وعلماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب. وبهذه المواهب التي نشأت في محمد بالفطرة، وانتقلت إلى أصحابه بالقدوة، أصبح الإسلام الذي بدأ بخديجة وعلى وأبي بكر وزيد، دين الناس ودنيا العالم؛ يقف به في آخر الغرب عقبة بن نافع على شاطئ المحيط الأطلسي ويقول وقد خوض جواده في الماء: (اللهم ربَّ محمد! لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك. اللهم أشهد) ويتجه به إلى آخر الشرق قتيبة الباهلي، ويأبى إلا أن يوغل في بلاد الصين، فيقول له أحد أصحابه محذراً: (لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر) فيجيبه قتيبة: (بثقتي بنصر الله توغلت.

<<  <  ج:
ص:  >  >>