تحتل السيرة النبوية في تاريخ الأدب العربي مكانة لم يظفر بها موضوع آخر، لهذه المكانة التي يشغلها صاحبها في تاريخ الأمة الإسلامية أولاً، وفي التاريخ العام ثانياً، فإن الرسول عليه السلام لم يكن أديباً فقط له هذه الآثار القوية الخالدة من الأحاديث والخطب والرسائل، وإنما كان قبل ذلك وبعده، رسولاً صاحب دعوة إصلاحية عامة تناولت الدين والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأثرت في الحضارة العامة لمن اعتنقوها طائعين أو جانبوها كافرين، واستطاعت أن تستوقف التاريخ أو تلوي عنانه لتملي عليه إرادتها، وتلقي إليه وحيها، فأخذ عنها ما أملت، وكتب من فصوله صحفاً ملأى بالجهاد، والفضائل، والأدب، والفن، والسياسة؛ ولا يزال الإسلام إلى اليوم - على الرغم مما أصاب بعض ذويه من هوان - مصدر الخير والسعادة، وموئل البشرية حين تعزوها الهداية، ومعهداً لدراسات خطيرة تلقي أمام رواد الحضارة المثالية ضوءاً يرجى أن يتم به على العلم ما يبغي من رشاد وسلام.
ولم تقف العناية بالسيرة عند العرب وحدهم، أو المسلمين فقط، وإنما تجاوزتهم إلى جماعة من كتاب الفرنجة الأعلام الذين رأوا في نبي المسلمين رجلاً عظمياً من رجال التاريخ خليقا بالبحث في أسباب عظمته، وما أتيح له من هذا الفوز الذي استأثر بالسلطان المدني والسياسي طوال القرون الوسطى، إذ كان العالم الإسلامي يشغل التاريخ بأحداثه الكبرى، ودوله المتعاقبة، وآدابه الغزيرة حين كان الغرب يضطرب في ظلمات كثيفة، ويحيا حياة خاملة.
ولسنا هنا بعرض الاستيعاب، واستقصاء هؤلاء الذين كتبوا عن الرسول قديماً وحديثاً من المسلمين وسواهم، وحسبنا أن نلم بشيء من ذلك لنصل منه إلى جماعة من المعاصرين الذين تناولوا السيرة بأساليب مختلفة، لها قيمتها العلمية والفنية جميعاً.