منذ ألف ابن إسحاق سيرته التي اختصرها ابن هشام في هذا الكتاب المنسوب إليه، والناس يعدونها المرجع الأول لكل من يحاول تأريخ الرسول. وليس ذلك لأن جميع ما احتوته حق تاريخي خالص، وموضع الثقة التي لا ينالها تجريح، لا، ولكن ذلك لأسبقيتها التاريخية في التدوين، ولما احتوته من حقائق ثابتة في كثير من المواقف، ولأنها روت أخبارها بهذه الروح التي كانت مسيطرة على المسلمين في القرون الاولى، أي بوجهة نظرهم، وطريقة تفسيرهم لحوادثها. . . فكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل عند المتقدمين، ونقطة الابتداء لكل من يحاول تأريخ النبي الكريم من المحدثين، يرجع إليها محققاً أو مستلهماً. دع عنك بعد ذلك ما تراه فيها من شعر منحول، وروايات مكذوبة، وأخبار لم تصح، لأن وزر ذلك لا يقع على ابن إسحاق وحده، وإنما لهذه البيئة التي كان يعيش فيها الأثر الأول فيما وقع فيه من قصور، فقد كان يحكي أخبار جاهلية بعيدة، ويقص أياماً نالتها المبالغات والعصبيات، وينقل آثاراً مات أهلها، واعتراها التحريف. على أن ابن هشام لم يقيد جميع ما كن لابن إسحاق من خبر بل حذف منه كثيراً وبخاصة ما كان متصلاً بالجاهلية الاولى، منفصلاً عما يتصل بحياة الرسول اتصالاً مباشراً كما هو مذكور في المقدمة.
ثم جاء الواقدي وتلميذه ابن سعد في طبقاته، وحاولا التحقيق والزيادة فظفرا منهما بنصيب. وأصبح فن السيرة بعد هؤلاء تقليداً من التقاليد يعمد إليه الكتاب تعيداً أو تأدباً كما فعل كتاب المقامات في عصور التاريخ الأدبي المتوالية، فكانت السيرة الحلبية، والسيرة الشامية. ولم تخل كتب التاريخ العام - كالطبري وابن الأثير - من تخصيص بعض أجزائها لسيرة الرسول إذ كانت تشغل وحدها فترة واسعة، خصبة، بعيدة الأثر فيما أعقبها من دول وأحداث.
وهذه المؤلفات القديمة لم تكن بالطبع خاضعة لهذه المناهج العلمية الحديثة، فكانت مجموعة من أحاديث الرسول، وأخبار الجاهلية وأساطير القدماء، وأشعار الناحلين ومبالغات الراوين، دون عناية بالنقد والتفسير أو التنسيق وحسن التأليف. ولكنها كانت مؤلفة بروح هذه العصور السابقة، وبوجهة النظر التي كانت - في الغالب - مقياس الصحابة والتابعين حين يذكرون الرسول الكريم ويفسرون أعماله وآثاره