كلاهما أحب الزرقة فآثرها لنفسه لوناً، وكلاهما آثر الرهبة فاتخذها لنفسه وصفاً، وكلاهما يمتد فلا يبلغ البصر منتهاه، ويسرح فلا يعرف الطرف مداه، قد حجب كل منهما الذي وراءه، ولم يبد كل منهما غير صفحته، لا تمل السماء النظر إلى البحر، ولا يمل البحر التطلع إلى السماء، صفحتان متشابهتان، ووجهان متقابلان، قد يبسم كل منهما لصاحبه فيصفو أديم السماء وتنبسط أسارير البحر، ويكتنف ما بينهما هدوء يشرح الصدور وترتاح له النفوس، وقد يدل كل منهما على صاحبه، ويمكر كل منهما بمقابله، فيعلو وجه السماء سحاب خفيف، أو يسدل عليها نقاب منه شفاف، وترتسم على وجه البحر تقطيبة من الموج، لا يلبث معها أن يهدأ فتزول، وقد يتجهم كل منهما لصاحبه، ويتجنى كل منهما على الآخر، فتسدل السماء على وجهها حجاباً من السماء أدكن اللون، لا يشف عن شئ ولا ينم على شئ، ويثور البحر في عنف، ويحتد في غضب، فيرغى ماؤه ويزبد موجه، ويشتكي من لطماته شاطئه، وقد تستسلم السماء إلى البكاء، فترمي البحر برذاذ من الدمع أو بوابل من المطر، وقد يزأر البحر فترعد السماء، ويزهو بياض الموج فيشتد من البرق اللمعان.
سبحان الذي جعل بينهما هذا الفضاء مجالاً للطير ومسرحاً لكل ذات جناح، وتعالى الذي جعل بينهما هذا الهواء حياة للكون، ومطلباً لكل ذي روح، ثم شاء ألا تتقطع بينهما الأسباب وألا تبعد بينهما الوسائل، فتقاربا على بعد، وتدانيا على تناء، أضاءت السماء بنور الشمس، فأرسلت على الماء من شعاعها فضة لا تذوب، وتحلت السماء بضوء القمر، فأهدت إلى الماء صورته، ورسمت على سطح البحر ظله، وتجملت السماء بوشى النجوم، فبعثت إلى البحر منه ببريق، ويا عجباً لوفاء تلك السماء لهذا الماء، ما يكاد ينقضي النهار وتعتزم الشمس المغيب، حتى توصيها إلا ما قصدت الماء في طريقها إلى الغروب، وأبلغته سراً من الأسرار لا يلبث وجه الشمس أن يحمرّ له احمراراً ينبئ عن السر، ويفصح عن مدلول الكلام، ويا عجباً لهذه السماء تضحك من أهل الأرض، فتخيل إليهم أنها تلاقي الماء عند الأفق، وتحسب أهل الأرض لها عذّلاً، فتوهمهم أنها طوقت الماء بجناحها، وأرخت