على صفحته طرفاً من ذيلها، وتمكر بأهل الأرض، فكلما قربوا من الأفق ابتعد عنهم، وكلما علو عنه اتسع أمامهم مداه، ويا عجباً لهذه السماء حين تدل على الماء، وحين تتجنى على البحر، فتغري به الشمس أن ألفحيه بشواظ من نارك تنفذ منه إلى الصميم، وارميه بسهام من شعاعك تخترق منه الفؤاد، فما تكاد الشمس تأمر بأمر السماء، حتى يضيق البحر بوهج الأشعة وألم السهام، فتذوب حشاشته، وتتبخر عزيمته، وما تكاد السماء تحس حر أنفاسه، وتشعر بلافح زفراته، حتى تسيل من الأسى دموعها، وتتقرح من البكاء مقلتاها، لله شأنها!! تريد أن تلعب بالنار فلا يمسها سوء ولا يلحق بها أذى.
ويأبى البر أن يترك الأمر خالصاً بين السماء وبين الماء، فيود أن يكون له معهما شأن أي شأن، ويجب أن يكون له من كل نصيب وافر، فيلجأ البر إلى أهله يغريهم بالبحر، وويل للبحر يومئذ من الإنسان، ويسلطهم على السماء، ويا للسماء يومئذ من أهل الأرض، أما البحر فقد قدروا عليه، وهزئوا به، فركبوا متنه، ومخروا بالسفن عبابه، وجرءوا عليه فغاصوا بالعلم إلى قاعه، لم يخفهم منه موت، ولم يرهبهم فيه وحش، أقاموا فوقه الجسور، وشيدوا عليه السدود، فقطعوه ولم تبتل لهم قدم، وعبروه ولم يخلعوا لهم ثوباً. وهكذا قرب البحر من الإنسان فاستخف به، وتكشف البحر للإنسان فلم يخش ما فيه، ولو قد كان بعيداً لما استخف به أحد، ولو قد كان غامضاً لما اطمأن إليه إنسان، ففي الغموض سر رهيب، وفي عسر المنال رغبة في النوال.
ولم يكف هذا الإنسان أن يلزم الجد مع الماء، وأن يتخذ منه معيناً على الحياة، وطريقاً إلى الممالك والديار، وإنما أراد أن يمرح مع البحر، وأن يلهو بالشاطئ، فاتخذته الغيد مسرحاً يخطرن فيه، وميداناً يصلن في أرجائه، سلاحهن الجمال، وعدتهن الرشاقة، واتخذه الرجال معرضاً يرون في ما لم يكن من قبل إلى رؤيته سبيل، ويشاهدون فيه ما ليس يوجد عند غيره، واخذه هؤلاء وهؤلاء ملهى وملعباً ومصطافاً، فلم يبق للبحر من هيبته إلا اتساع مداه وتراكم لججه، ولم يعد للبحر من رهبته إلا خواطر المتأمل فيه، الناظر إليه حين يخيم عليه الظلام، وتضن عليه السماء بنورها.
أما السماء فلم يبلغ منها أهل الأرض ما بلغوا من الماء، وإنما تنافسوا في العلو إليها، وتسابقوا في الارتفاع إلى ذراها، فحالت الطبيعة بينهم وبينها، وأوقفتهم عند حد من الفضاء