لفت نظري - وأنا أدرس الحياة الاجتماعية في العصر العباسي - ما رأيت من كثرة ما كتب عن اللون الأصفر في هذا العصر، وحلوله محلاً كبيراً غطى على كل الألوان الأخرى، وكثرة ما قيل فيه من أدب، فرأيت أن أعرض على قراء (الرسالة) شيئاً منه وأترك لعلماء الجمال ما يدل عليه انتشار اللون الأصفر في الشعوب من تحديد درجة الذوق في الرقي، وعلاقته بانتشار التهتك والخلاعة، ودلالته على مقدار ما وصلت إليه الأمة من حضارة.
روى الجاحظ من الأمثلة المشهورة قولهم:(أهلك النساءَ الأصفران: الذهب والزعفران)، وهذا يدل على غرام النساء باللون الأصفر، وظهور هذا الغرام بحبهن للذهب والزعفران؛ أما حبهن للذهب فللونه ولأنه خير أنواع المال. وقد ظُلم النساء برميهن وحدهن بحب الذهب، فمن من الرجال كذلك لم يذله الذهب ويسترقه المال ويستعبده الدينار؟ ومن منهم لم يقس أخلاقية العمل بمقياس الذهب؟. . . لقد كان الحريري أصدق قولاً إذ يقول:
أكْرمْ به أصفرَ راقت صفرتهُ ... جوّابَ آفاقٍ ترامت سفْرته
مأثورةً سمعتُه وشهرته ... قد أودعت سر الغنى أسرَّته
وقارنت نجحَ المساعي خطْرته ... وحُببت إلى الأنام غرَّته
لولا التَّقى لقلت جلت قدرته
وأما الزعفران (وهو نبت له أصل كالبصل وزهر أصفر إلى حمرة) فقد كان له سلطان في بغداد أي سلطان حتى لو سميْتَ بغداد في ذلك العصر مدينة الزعفران لم تُبعد؛ وقد جعلوا له قوة سحرية فقالوا:(إنه إذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص) وإذا حسن في عينهم شيء أصفر شبهوه بلون الزعفران كما قال آدم بن عبد العزيز: