عرضت لي منذ بضعة أعوام فرصة لزيارة دار المحفوظات المصرية بالقلعة، ولست أذكر الآن من زيارتي سوى ممرات حجرية ضيقة تفضي إلى غرفة عتيقة شاسعة قد طرحت فيها الأوراق الصفراء أكداساً على الأرض، وغصت جنباتها وزواياها برزم متناثرة من الوثائق القديمة؛ ولم يكن يومئذ بالدار سجلات أو فهارس منظمة، ولم تكن تعرف محتوياتها بالضبط ولم تلفت محتوياتها حتى اليوم أنظار الباحثين
وفي أواخر هذا الصيف زرت دار المحفوظات النمسوية بمدينة فينا، وترددت عليها مراراً لمراجعة بعض الملفات والوثائق التي تتعلق ببعض مباحثي فدهشت لما رأيت من دقة التنظيم وحسن التنسيق وسهولة البحث والمراجعة، وشهدت كيف يستطيع الباحث أن يعمل في جو من النظام والترتيب، وكيف يتاح له أن يظفر في الحال بما يطمح إلى مراجعته من الوثائق والملفات، منسقة مصنفة طبق الموضوعات والتواريخ، مدونة في سجلات دقيقة تدل في الحال على ما فيها، وترشد الباحث إلى غايته بأيسر أمر
وقصدت أيضاً إلى دار مجموعة الصور التاريخية النمسوية - وهي من أعظم المجموعات العالمية في نوعها - لأشاهد صوراً لبعض الشخصيات التاريخية، ولأستأذن في نقلها، فقدمت إليّ الصور المطلوبة في دقائق معدودة، واخترت في الحال للنقل منها ما شئت؛ ذلك لأن هذه المجموعة الحافلة قد نظمت بمنتهى الدقة ورصدت محتوياتها مرتبة وفق العصور والتواريخ والأسماء، ويكفي أن يلقي الموظف المختص على السجل المعين نظرة ليعرف في الحال إن كانت الصور المرغوبة ضمن المجموعة، وليستخرجها في الحال من مكانها
أعجبت بهذا النظام الدقيق الذي يوفر على الباحث كثيراً من الوقت والعناء، وذكرت في كثير من الأسف ما انطبع في ذاكرتي من مناظر دار المحفوظات المصرية، وكيف أن هذه الدار التي تغص جنباتها العتيقة بكثير من وثائق التاريخ المصري في مختلف عصوره - ولاسيما العصر التركي وعصر محمد علي - لا زالت بحالتها الساذجة، وأكداسها المختلة المجهولة مغلقة على البحث والتحقيق