للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من عيون الأدب الإنجليزي]

مرثية في مقبرة ريفية

لتوماس جراي

للأستاذ محمد مندور

المدرس بكلية الآداب

ليست معرفتي (بجراي بنت ألامس. ولقد سمعت شباب الجامعة بكمبردج يرددون مقطوعاته، وفي جمال اطرادها ما ينسيني هوى نفسي وعهدي بها نزاعة إلى الجائش المضطرب اضطراب نزوات الحياة عندما يسحق عمقها. ومن قديم وصف بوالو هذا النوع من الاضطراب الجميل بأنه منبع آيات الفنون

ولطالما سألت نفسي عن سر إصغائها إلى (جراي) على بعد البون بين ما ألتمس في نفوس الشعراء وما جبل عليه هذا الصديق، فما وجدت جواباً غير راحة النفس المضناة تجد في اطراد النغمات مسكناً لما يجيش فيها بالألم

وفي الحق أن الشعر الإنجليزي لا يعرف قصيدة أمعن من مرثية جراي في اطراد الوزن ونقاء المبنى. فالقصيدة تنتظم رباعيات متعانقة القوافي متلاحقة التفاعيل في غير زحاف ولا علة، بحيث ينطلق فيها البصر، والنفس تلاحقه في يسر ينزل منها منزلة قطرات المطر تتساقط موقعة على زجاج نافذة، فإذا بالنفس قد هدأت وسكن جائشها إلى اطراد النغم. ومن منا يتردد إذن في صداقة رجل كهذا؟

لم يعرف (جراي) ثورات النفس ولا مغامرات الهوى، وفي انتظام حياته ما يملأ القلب إعجاباً، فقد أنفق عمره يطلب العلم بكمبردج، وكأني به يطلب إلى العلم سلوى عن طفولته البائسة. طفولة طفل يولد لأبوين متفاوتي المشارب حتى ليستحيل على أحدهما أن يسكن إلى الآخر

ولأمر ما يحلو لي دائماً أن أتصور (جراي) رقيق النفس رقة النسمات المتهافتة؛ وفي ميوله ما يغربني بهذا الظن، فلقد أولع الرجل أشد الولع بأغاني تلك الأغاني الشعبية التي كانت ولا يزال يرددها سكان جبال إبقوسيا، وساقه أوسيان إلى أساطير البلاد الشمالية

<<  <  ج:
ص:  >  >>