فتحت سلوى عينها على الحياة على مدينة نيويورك، تلك المدينة التي تقوم فيها ناطحات السحاب، والبيوتات المالية التي تعبث بمقدرات العالم، وتسير التاريخ، وترسم له الاتجاه.
وكان والدها قد رحل إلى أمريكا قبل ذلك التاريخ، ووافته الفرصة فجمع مالاً وفيراً، وعاد إلى الوطن يفتش عن عروس في فلسطين أرادها أن تكون أسرته، فبنى بابنة عمه وعاد بها إلى أمريكا.
ولكن الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل ومراتع الصبا، جعل حياة الزوجة جحيماً لا يطاق، فما زالت به حتى قنع بالعودة بعد تصفية أعماله.
والحرية في مدينة نيويورك تختلف عنها في الشرق اختلافاً عظيماً، ذلك أن الفتاة والفتى يلعبان طفلين معاً، ويتعلمان شابين ولا يجدان في مسالك الحياة ما يغير ذلك. والتعليم في معانيه يحمل العقل مسئولية الخطأ في الحياة، وينير أمام الضمير الطريق، والفتى والفتاة في الخامسة عشرة يجتازان أشق مرحلة من مراحل الطيش، تلك المرحلة التي يعزف فيها الشيطان على قيثارة الشباب ألحان الجنون، وتصرخ الطبيعة في الجسد الغض بصوتها الذي يزلزل العقل ويدمر الإحساس، ويوقد بأبنائهم وبناتهم في هذه السن المبكرة، والآخذ بيدهم لاجتياز هذه المرحلة الموحشة.
عادت سلوى وهي في الخامسة عشرة من عمرها مع أمها وأبيها إلى أرض الوطن الذي لا تعرف عنه شياً، وإلى الأهل الذين تختلف طباعهم وسلوكهم وعاداتهم عما الفتنة في نيويورك، فرأت نفسها غريبة لا تفهم الناس ولا يفهمونها. تبصر النساء يسرن وقد وضعن على وجوههن أغطية شفافة سوداء فلا تفهم معنى المحافظة على الأخلاق عن طريق الثياب بدلاً من غرسها في صميم الروح.
ومات والدها بعد ستين من رجوعها إلى فلسطين، ولم يترك غيرها فكانت الوراثة الوحيدة