للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وحي القمة القاصية:]

قطيع الصيف في باريس

للدكتور علي شرف الدين

في كل عام - وفي مستهل الصيف خاصة - يقبل على باريس هذا القطيع من أطراف أوربا. مختلفات الجنس واللغة، متباينات الأعمار والثقافة، في عيونهن غرارة، وخلف الأجفان مستقبل حافل بالدموع، ما عرفته ولا فكرن فيه، وفي إشارتهن براءة، وما تصيب الفواجع غالبا غير القلب البرئ، كأنما تحب السماء هذه القلوب، فهي تمتحنها بالآلام لتزيد في طهارتها قبل أن ترفع إليها

أطلقهن الرعاة من مراعيها الآمنة، وأبحن لهن - وهن الناشئات - أن يقبل عليهن المساء، وهن في غير مراح الحقل بعيدات عن سمع الراعي ونظره، وما بالع من أطلقهن في الثقة، ولا أسرف في حسن الظن، ففي قلوبهن من وحي الفطرة الأصيلة عصمة، وفي آذانهن من ترانيم الكنيسة صدى رائع يغلب كل الأصداء، ولكنها سنة الشباب والحب، جديدة في كل عصر، وإن أعادت نفس القصة في كل جيل

أقامت لهن باريس معارض الفن ومناهل للأدب، وحشدت لهذا أقوى ما يأسر النفس والعين. يمضي الصيف وهي مع الرعيل في الغدو والرواح، يهديها رسول الأمن في الجماعة، ويملأ عينيها نور الفرح بما ترى وتسمع، لا تلبي غير نداء المعرفة، ولا تغشى غير المواطن الآمنة، في صالات الموسيقى، وفي الكسمبور، وتحت قباب البانثيون. . .

فإذا تقدمت بهن الإقامة رأيت شيئا جديداً: رأيت أن القطيع قد استحال إلى أسراب، ثم استحال السرب أخيراً إلى (الغنمة القاصية)، ولكن في صحبة جديد، ولا تشك حين تراهما في أن ملاكا يحرس هذا الحب الجديد، فما تزال سمات القطرة في الوجوه تنادي بنبل العاطفة، وما يزال في العيون شعاع يكشف عن قلب برئ. ومن ذا الذي لا يبارك على حب تذكيه غرارة السن، ويرعاه من العاطفة ميل ساذج صريح؟

ويمضي الصيف فيبقى نصف القطيع قائما في باريس لا يريم. ويتقدم الزمن قليلا، فإذا جدة الحب قد أخذت تبلى، وإذا بهجة اليسار قد أخذت تنطفئ، ليأخذ مكانها ظلام الحاجة، وإذا هذه الغلائل البيضاء التي كانت ترف بالأمس على هياكل من النور كما يرف جناح

<<  <  ج:
ص:  >  >>