(ذلك العبقري المتمرد الذي غنى أروع أناشيد الحرية، ولاقى
الموت في سبيل الحرية)
للأستاذ محمود الخفيف
أرسل جروج بيرون إلى مدرسة صغيرة في أبردين وهو دون الخامسة، ولكن أمه لم تطمئن إلى تعليمه فيها فعهدت إلى أستاذين بتعليمه في المنزل إلى جانب المدرسة وقد حبب إليه إحداهما التاريخ وعلى الأخص تاريخ الرومان، فراح يقرأ منه في غير ملل، وعلمه الآخر اللاتينية، بينما أخذ يوحي إليه مبادئه الكلفنية، والطفل يستمع إليه في ذلك مندهشاً متحيراً يتساءل في صمت كيف يقدر الشقاء على قوم قبل مولدهم، وما جريرتهم حتى يشقون وأي فرق بينهم وبين الذي قدرت عليهم السعادة؟ ويستمع الصبي إلى مثل هذا في حديثه مع خادمته ماري، حينما يسألها وهي تتلو الإنجيل قائلاً: وما ذنب قابيل قبل أن يقتل أخاه؟ ويضيق حين تجيبه أنه قدر عليه الشقاء، فيقول في غضب: وكيف يسأل عن جريمته إذاً؟ على أنه يطرب للغة الإنجيل وإن لم يفهم أكثرها ويهتز قلبه لما يتخيله عقله الصغير من صوره
والصبي قوى الخيال يصور له خياله كل شيء ويلازمه ما يتخيل أينما ذهب، وكانت صورة الشيطان الذي طالما حدثته عنه ماري تتملك لبه وتصحبه في الغداة والعشي، فإذا ترك في مخدعه وحده نفت النوم عينيه صورة الشيطان حتى لتمتلئ الغرفة حوله بالأشباح، وإذا أطل من نافذته وجد المقبرة القريبة منه ملأى بالشياطين من كل هيئة ومن كل طول وهي تتعابث وتتراقص
ويستمع الصبي أيضاً إلى أحاديث أمه وخادمته عن أجداده لأمه وأجداده لأبيه وكيف قرنت بالشر أيامهم فيعزو ذلك إلى أنه قد قدر عليهم الشقاء من قبل فكانوا من حزب الشيطان كما كان قابيل من حزب الشيطان، ويخاف الصبي أشد الخوف أن يكون نصيبه من الحياة مثل نصيب هؤلاء وهو يرى من أثر الشيطان في خلق أمه ما يرى ثم يرى منه في نفسه ذلك