استعاد صلاح الدين بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، بعد أن ظل في أيدي الصليبيين زهاء تسعين عاماً، وقد أثارت عودتها إلى حظيرة الإسلام ثائرة إفرنج أوربا، وبذل رجال الدين كل جهد، ليوقظوا غضب الجماهير، وليشركوا ملوك أوربا وأمراءها في حرب صليبية جديدة، وأرسل صاحب صور صورة المقدس في ورقة، وصور فيها صورة كنيسة القيامة التي يحجون إليها ويعظمون شأنها، (وفيه قبة قبر المسيح، وصور على القبر فرسا، عليه مسلم قد وطئ قبر المسيح، وبال الفرس على القبر، وأبدى هذه الصورة وراء البحر في الأسواق والمجامع، والقسوس يحملونها ورءوسهم مكشوفة، وعليهم المسوح، وينادون بالويل والثبور. . .) وقد كللت جهودهم بالنجاح، فأقبل على القتال جند كثي، على رأسه أعظم ملوك أوربا، وهم إمبراطور ألمانيا فردريك بارباروس، وملك فرنسا فليب أوغسطوس، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد.
أقبل الصليبيون على فلسطين من كل مكان بالبر والبحر والتأم شملهم في صور، التي أوى إليها الصليبيون من جميع أنحاء سوريا وفلسطين، وقر رأيهم على مهاجمة عكا، لحصانة موقعها، لأن الطريق غليها شاطئ البحر، حيث تحميهم سفنهم، وكان البحر أعظم مساعد لهم، يحمل إليهم المواد الحربية والمؤن والرجال، وقد وصلوا أمام عكا في ١٥ رجب سنة ٥٨٥هـ، ووضعوا عليها الحصار.
عندما سمع صلاح الدين بحركة الفرنج جمع أمراءه للاستشارة، كان رأيه أن يهاجمهم في الطريق قبل أن يصلوا إلى عكا، ولكن أمراءه أقنعوه بأن الخير في أن تدور المعركة أمام عكا. وعندما ذهب صلاح الدين إلى عكا وجد الفرنج قد أحاطوا بها، ومنعوا كل اتصال بها، فعسكر صلاح الدين في مواجهتهم. ويقول المؤرخون: لو أن صلاح الدين عمل تبعا لرأيه الخاص، وهاجم الصليبين قبل أن يحاصروا المدينة لأنقذها، ولكن تلك إرادة الله.
صمدت عكا أمام الفرنج زهاء عامين، نال أهلها فيهما الضر، وأنهك الضعف فيهما رجالها، وبلغ منهم العجز إلى غاية لم يجدوا بعدها بدا من التسليم، وكانت قوى صلاح الدين يومئذ