إذا ما غلب علي ظن الهيئات العادية من أولئك القوم الذين ينعمون بما لهم من رصيد في صناديق التوفير أو ممن يحيون حياة طيبة في أكواخهم أو ممن يهنأهم ما جمعوا أو جمع لهم من ظارف أو تليد، إن ما بيدهم على وشك أن يزول عنهم، ثم تركت لهم الحيرة بين نظامين أحدهما يضيع على الناس أموالهم وحريتهم، والأخر يميل إلى الاستبداد بهم والتضييق على حريتهم، لانصرفت رغبتهم إلى ثاني المصيرين، وفضلوا أن يضحوا بحريتهم في سبيل الاحتفاظ بأموالهم. وعندي إن هذه الرغبة هي من منبع الضلالة وعماد ما يتهدد الحرية عموماً وحرية الصحافة ضمناً من إرهاب أو طغيان هو أكثر أساليب الاستبداد تضليلاً للعقول البشرية، إذ لو ترك لأمثال هؤلاء الناس أن يدركوا ما سيسوقهم إليه خيارهم من مصير لعرفوا انهم سوف يندمون على ما صنعوا ولات ساعة مندم. وسوف تتكشف لهم الحقيقة عن أن خسارتهم في حرية التملك لم تكن بأقل من خسارتهم في حرية التفكير وحرية التصرف وحرية القول ونقائص ذلك النظام الذي يخلعون عليه اسماً غامضاً فيدعونه (بالنظام الرأسمالي) قد ترجح أولاً ترجح على فضائله. إلا أنه في الأمم التي احتفظت بنظامها النيابي الديمقراطي وبالتالي بحرة صحافتها ما زال (للرأسمالية) فضلها في ترك نقادها أحراراً في نقدها إياها، وبعون من النقد العام يتهيأ للإصلاح أن يقلم أظفار (الرأسمالية) ويخفف من غلوائها في استعمال حقوقها استعمالاً مضراً بالآخرين أن لم يسعه أن يضع الأمور في وضعها العادل. فإباحة النقد كما سبق لي بيانه هي سند الحرية في الجماعات التمدنية أو هي كما عبر عنها أحد خدام بريطانيا الممتازين:(ما لنا من حق في أن نقول لأية حكومة كائنة ما كانت لقد ضقنا بك ذرعاً فإلى صقر) فلا ضمان لحرية شخصية، ولا أمل في تحقيق نجاح، ولا عاصم من طغيان، ولا أثر فعل للآراء الخاصة، ما لم تتوفر لنقد حرمته وحريته.