تفضل الأستاذ الجليل (ناقد) فاستجاب للروح العلمية البريئة، ولما وجهناه إلى جمهرة الناقدين من دعوة خالصة، فكتب عن (مجموع رسائل الجاحظ) فصلاً من فصول الناقدة في الرسالة، عرض فيه لحروف تعرضت - فيما يرى - للتصحيف أو التطبيع أو خطأ الرسم، متهدياً في ذلك بذوقه الأدبي ومحصوله اللغوي، وما زلنا نرجو منذ ظهر هذا المجموع أن يتاح له حظ النقد البصير؛ فليس أحق من الجاحظ - كاتب العربية الأول - أن تتضافر القوى وتتعاون الجهود على جلاء آثاره وإبرازها في صورة أمينة دقيقة جديرة به، بعد أن تعرضت آثاره مدى الأجيال الطويلة للكثير الوافر من عوامل التحريف والتشويه والمسخ. ومن ذلك كان لعناية الأستاذ العلامة الناقد بالمشاركة في جلاء هذه الطائفة من آثاره أجمل الأثر في نفوسنا. وقد تجلت هذه العناية في هذا الفصل، وقد وفق خير التوفيق في بعض ما عرض له، وأما بعضه الآخر فإنا نرى فيه غير ما يرى
وإذا كنا نرى غير ما يرى في أكثر ما عرض له، فمرد كثير من ذلك - فيما يظهر - إلى الخلاف بيننا وبينه في الأصل الأول في النشر. فالأصل عندنا في نشر أثر من الآثار العقلية هو إبراز صورة أمينة من ذلك الأثر، بريئة مما تركته عليها الأجيال المختلفة، والأيدي الجانية، من تشويه أو تخريف أو تزوير. وسواء بعد هذا أن تجئ هذه الصورة كما نشتهي وكما ترجوها مثلنا، أو أن تكون منحرفة عن هذه المثل. ذلك هو الأصل في النشر، ومن هذا كان الناشر مقيداً في عمله بقيود مختلفة، ومحكوما باعتبارات كثيرة، تمسك يده أن تنطلق، وتكف نفسه أن تتدخل، ولا تدع لمزاجه الخاص أو محصوله العلمي سبيلاً إلى أن يفرض نفسه، أو يطبع كلام المؤلف بطابعه، أو يترك عليه أثراً منه. فأما الأستاذ العلامة (ناقد) فيظهر من اتجاهه فيما كتب عن المجموع أنه يميل قليلاً إلى تحكيم المثل في تحرير عبارة المؤلف
فمن ذلك تخطئته إيراد المثل:(كل مجر في الخلاء يسبق. (ص ١٠٢ س ١٩)، لأن المثل المشهور، أو الصورة المشهورة له (كل مجر في الخلاء يسر)، وهو نفسه يقرر أن للمثل صورتين أخريين: (كل مجر بخلاء يسبق، وكل مجر بخلاء مجيد، فكأنما عز عليه أن