يسوق الجاحظ المثل في غير صورته المشهورة وهذا ولا ريب نوع من تحكم المثل الذي ذكرنا. وقد كان من الممكن أن نعتبر هذه الصورة المشهورة للمثل، لا لأنها الصورة المشهورة، ولكن لأن الجاحظ قد آثرها في أكثر من موضع في كتبه، كما نرى مثلاً في الحيوان (١: ٨٨، ٤: ٢٠٧ وفي البيان والتبيين (١: ٤٩) الخ، وهذه إحدى الطرق المقبولة في تفضيل قراءة على أخرى، ومع هذا آثرنا ما تعرضه عليه مخطوطتنا الوحيدة في هذا الموضع، إذ ليس ما يدعو إلى فرض تحريفه، ولأن الجملة التي زاوج الجاحظ بها هذا المثل تضعف احتمال الصورة المشهورة له، فهو يقول:(كل مجر في الخلا يسبق، وكل مناظر متفرد بالنظر مسرور)
وكذلك أخذ الأستاذ الناقد علينا أننا ضبطنا هذا المثل (لن تعدم الحسناء ذامّا)(ص ١٠٤ س ٨) بحيث تصبح كلمة إلذام اسم فاعل من الذم لا اسماً بمعنى العيب، إذ كان المثل (لا تعدم الحسناء ذاماً)، ثم ذهب الأستاذ يفسر كلمة الذام كأن المثل أغرب علينا، فقاربنا وتصرفنا على ما فهمنا والمثل بعد مشهور بتخفيف الميم؛ ولكنا رجحنا أن الجاحظ تصرف في إيراد المثل على الصورة التي أوردناها، ليستقيم سياق المعنى الذي يريد تقريره عن الحسد، ودل عليه بكثير من الآثار والأمثال التي لا يستقيم معها ذلك المثل في صورته المأثورة إلا أن يكون الجاحظ ممن يلقي الكلام على عواهنه، ولا يعد أن يستشهد بما لا موضع له، ولا يتساوق مع غرصه، ويخالف بين أطراف الكلام مثل هذه المخالفة! ولكن الأمر الذي لا يعبأ به الجاحظ حقيقة هو أن يتصرف في المثل حتى يطوع له، على ذلك النحو الذي لا بأس به
ومن هذا الباب أيضاً تخطئته لنا أن نثبت هذه العبارة:(واستذرأت في ظلك) مهموزة، لأنه يقال - كما يحكى الأستاذ الناقد - استذرى بفلان أي التجأ إليه، وفلان في ذرى فلان أي في ظله. وحسب الأستاذ هذا، لا لتكون الكلمة خطأ، بل ليكون إثباتها منسوبة إلى الجاحظ خطأ. وليست المسألة بهذا اليسر، فيما نرى؛ وإنما الوضع الحقيقي للمسألة هو: هل يمكن القطع بأن هذا الخطأ هو خطأ الناسخ لا خطأ الكاتب، وهل مثل هذا الخطأ مما لا سبيل له إلى قلم الجاحظ، إن كان لا بد من تسميته خطأ؟
أما إنه لو صح لنا هذا لما كان لنا أن نستبقيه، ولوجب علينا أن نستبدل به؛ ولكن الأمر