للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[طرائف عباسية]

نخلتا حلوان. . .

للشيخ محمد رجب البيومي

للشعراء إلهام خفي يعرج بهم إلى ملكوت رفيع، فهم يرون الكائنات الماثلة في صور غريبة متخيلة، وقد يقف الشاعر أمام رسم ماحل فيحاوره ويجادله ويجعل منه إنساناً يفصح عن شكاته، ويبين عن طواياه. وإذا كنا نحمد الكاتب الذي يصور مشاعره تصويراً صادقاً فيعرض لقارئه ما يختلج في صدره من إحساس في أسلوب مرسل طليق، فنحن بلا شك نعجب بالشاعر الذي يتصور عواطف غيره فيفصح عنها إفصاحاً مشرقاً، وقد يدق تصوره فيتغلغل فيما حوله تغلغلاً عميقاً، فإذا مر بقصر سامق، أو شاهد دوحة باسقة، منحهما جانباً من الإحساس البشري الدافق، ثم يعبر عما يتخيله من شعورهما المزعوم فيجمع إلى خفة الشعر غرابة المنحي وطرافة التفكير.

والحقيقة أن الشاعر يخلع إحساسه - في أكثر مواقفه - على ما حوله، فإذا كان مبتهج النفس، منبسط الأسارير، تصور ما أمامه من نبات أو حيوان كذلك، فرسمه في صورة مرحة سارة، أما إذا كان ملتاع الفؤاد منقبض الصدر، فإنه يتحدث عن شعور غيره في تبرم وأنفعال، وقد تهتف حمامة على فتن ناضر فيسمعها شاعر حزين فجعه البين في أحبائه، فيتصور هتافها نواحاً مريراً، وقد يسمعها شاعر مرح ممتع بأصفيائه، فيتصور هتافها غناء ساحراً ينعش الأفئدة ويسري عن النفوس.

وسنتحدث عن نخلتين عجيبتين بسقتا في ناحية متواضعة بحلوان (في آخر سواد العراق) وقد، لبثتا حيناً من الدهر يمر بهما الناس في الغدو والرواح، فلا يسترعيان انتباه إنسان، حتى نزل بهما مطيع بن إياس الليثي، وكان شاعراً متمكناً يسلك بقريضه فجاجاً متشعبة، فتحدث عنهما حديثاً جازت به الركاب، وتناقله الرواة فتسامع به الوزراء والخلفاء، وقد ضرب الدهر ضرباته بالنخلتين فطواهما في عنف عن الوجود منذ ألف عام ومائتي عام، ويبقى حديثهما في شعر معطراً بعبير الخلود!

لم يكن مطيع هداراً لجباً يجذب بروعته الأبصار كالإقيانوس الصاخب، بل كان شعره ينحدر رقيقاً عذباً كالغدير المترقرق، وذلك شأن من يقصر فنه الشعري على الغزل الرقيق،

<<  <  ج:
ص:  >  >>