وا أسفاه!! أبعد هذه الحقب الملايين التي أتت على سليل الطين فسوت من خلقه، وراضت من خلقه، وصقلت من ذهنه، وصفت من جوهره، وجعلته على ملكوت الأرض يديره على حكمه، ويجريه على نظامه - لا يزال كأوابد الفقر وضواري الغاب يسطو القوى على القوى بالختل، ويعدو القوى على الضعيف بالقتل، وتضطرب الشهوات والمآرب بين الحيلة والغيلة اضطراب الأثرة بين العجز والقدرة؟!
أبعد الرسالات المتعاقبة التي بلغها رسل الله فغمرت العالم بالضياء، ووصلت الأرض بالسماء، ونهجت للنقص البشري سبيل الكمال المطلق - لا يبرح الإنسان باسطاً عنانه في الجهل، يرتكس في عماية الهوى، ويرتطم في حمأة المادة، ويجعل من الدين غشاء لنابه، ومن الأخلاق طلاء لظفره!
أبعد انتشار العلوم التي هتكت أستار الكون، وكشفت أسرار الطبيعة، وسبرت أغوار الحياة، وذلك ريض القوة - يظل أبن آدم على حيرة من يومه، وفي غمة من غده؛ لا يثق وثوق العالم بالحاضر، ولا يطمئن اطمئنان المؤمن بالمستقبل؟
أبعد ازدهار الآداب التي خلقت للناس أجنحة من الشعر، وكشفت للعالم أجواء من الخيال، وأبهجت مشاعر النفس بسحر المجهول، ودبجت حواشي العيش بألوان الربيع، ووجهت مطامح العيون إلى رفيع المثل - يظل الإنسان مسفا إلى حقير الأمل، مدفوعاً إلى دنى الغرض، محصوراً في حدود المنفعة؟!
أبعد هذه المدينة المغرورة التي تزعم إنها حررت الفكر، وأبطلت الرق، وضمنت حقوق الإنسان، ووحدت المقاييس بين الألوان، وحصرت أهواء الدول العاتية في قصر من قصور (جنيف) لتأمين خصامها بالتوفيق، وضمن سلامها بالتعاهد، وتجعل من جماعتها ألباً على الطغيان، وحرباً على العدوان، ويداً على الإثم - يظل الإنسان على عاد الجاهلية: يتكاثر بالعديد، ويتعزز بالسلاح، ويرصد الغفلة للغزو، ويفتري الحجة للغضب، ويغذى قوته على ضعف غيره؟!
من كان يظن بعد هذا الدهر المتطاول والعمران المستبحر والتقدم العجيب، أن يظل الناس على ضراوة الفطرة لا يتغير فيهم غير الغشاء، ولا يتبدل غير الأسماء، فتصبح البربرية بالعلم مدنية، والاغتصاب بالمدينة إنتداباً، والإسترقاق بالقانون وصاية!