من كان يظن أن بحر الروم الذي كان بالأمس مسبحاً لغارة القرصان، ومسرحاً لبغي الرومان، لا يزال اليوم مجالاً لمثل ذلك؛ فالأساطيل على وجهه، وفي جوفه، وفي جوه، تضطرم بالحديد والنار لا استجابةً لصريخ الحق، ولا إطاعة لأمر القانون، ولكن لأن طاغية من طغاة المدنية المغشوشة، حشر جنوده في البر والبحر والهواء ليقتل أمة عزلاء قبل أن يتفق مع منافسيه على اقتراف الجريمة واقتسام الغنيمة؟!
من كان يظن إن هذا (الفاشي) المفتون يقف بمرأى من (الفاتيكان)، وعلى مسمع من (جنيف)، فيلغي قانون (العصبة)، وينقض ميثاق (كيلوج)، ويتحدى جميع الدول، لأنه نفخ (زقاقه السود) بالهواء الحار، وحوَّل الحذاء الإيطالي كله مصانع للذخائر والآلات، ومعامل للسموم والغازات، ثم تكبر وإختال، وتيخل ثم خل، وفكر فيمن يحرقه بهذا الرصاص، ويمزقه بهذا الديناميت، ويخنقه بهذا الغاز، ويسحقه بهذا الحديد، فلم يجد كفاء لتالد روما وطريف الفاشيست غير الحبشة المتواضعة المسكينة!! ولكن بأي حجة يبلغ (الدوتشي) الشعوب الهمج. والأحباش ولا ريب همج لأنهم لا يأكلون (الأسباجتي)، ولا يشربون (الكيانتي)، ولا يسترقون إلا الأفراد فلم يرتقوا بعد إلى استرقاق الأمم!!
أما بعد، فلو كانت أمور الناس تجري على سنن المنطق لكانت الحبشة أولى بتمدين إيطاليا؛ قضى خمسون دولة بالإجماع على الطليان بالعار والخزي، فقاطعوهم مقاطعة المجذوم، وطاردوهم مطاردة الآثم؛ ووقف الأحباش من المغير موقف الكرامة والنبل، يقابلون العدواة بالسلم، ويدافعون السفاهة بالحلم، حتى ظفروا بإعجاب العالم ورشح النجاشي لجائزة نوبل!! فلما أغار (المتمدنون) من غير إعلان، وقاتلوا من غير ضمير، واستعملوا أسلحة بغير حق، دافع (الهمجيون) دفاع المستبسل الحر، وجاهدوا جهاد المستشهد الصابر، وغالبوا باطل المعتدين بقوة الحق وعطف الشعوب ومزايا الرجولة، وكان موقف النجاشي الأسود من الزعيم الفاشي الأبيض موقف رب الدار من اللص، وصاحب القانون من الجرم!
رويدك يا أسود الشعار وممثل دور الجبار ومنذر العالم بيوم القيامة! إن أرواح الشباب الذين قذفتهم ظلماً في جحيم الحبشة، لتخرق أذنيك من خلال اللهيب بهذا الهتاف الرهيب: