نعم رمضان! ولا بد من رمضان بعد أحد عشر شهراً قضاها المرء في جهاد العيش، مستكلِب النفس، مستأسِد الهوى، متنمر الشهوة، ليوقظ رواقد الخير في قلبه، ويرهف أحاسيس البِر في شعوره، ويُرجع روحه إلى منبعها الأزلي الأقدس فتبرأ من أوزار الحياة، وتطهر من أوضار المادة، وتتزود من قوى الجمال والحق ما يُمسكها العامَ كله على فتنة الدنيا ومحنة الناس.
فرمضان رياضة للنفس بالتجرد، وثقافة للروح بالتأمل، وتوثيق لما وَهى بين القلب والدين، وتقريب لما بعد بين الرأفة والمسكين، وتأليف لما نفر من الشمل الجميع، وتنديةٌ لما يبس من الرحم القريبة، ونفحة من نفحات السماء تفعِم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة!
ورمضان كله عيد وطني شامل، تفيض بالسرور أنهاره، وتغرق في النور لياليه، وتفتَرُ بالأنس مجالسه. فالرجال يحيون أماسيه في محافل القرآن أو منازل اللهو النزيهة، والنساء يوزعن الوداد والأنس على الأبهاء الكثيرة، والأطفال الهازجون يزينون الطرقات بفوانيسهم الملونة الصغيرة، والبيوت الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات، والمآذن الحالية بالمصابيح، الشادية بالتسابيح، ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته!
وكل شيء في رمضان جذلان مغتبط، ما عدا الرومي في الحان، والشيطان في كل مكان!
ورمضان مظهر قومي رائع، يعيد إلى القاهرة عز القرون المواضي، فيصبغ لونها الاوربي الحائل بصبغة الشرق الجميلة، ويرفع صوتها الخافت بشعائر الصوم الجليلة، ويبرز شخصيتها الضائعة في زحمة الاجانب بالمظاهر الرسمية للحكومة، والتقاليد العرفية للشعب. وما أروع القاهرة في سكتتها عند الإفطار، وجلبتها عند السحور، وهزتها ساعة انطلاق المدفع!
ورمضان بعد ذلك كله رباط اجتماعي وثيق، يؤكد أسباب المودة بين أعضاء الأسرة بالتواصل والتعاطف، وبين أفراد الأمة بالتزاور والتآلف، وبين أهل الملة بذلك الشعور السامي الذي يغمرهم في جميع بقاع الأرض بأنهم يسيرون إلى غاية الوجود قافلة واحدة، ممتزجة الروح، متحدة العقيدة، متفقة الفكرة، متشابهة النظام، متماثلة المعيشة.