للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[السفسطائيون]

للأستاذ زكي نجيب محمود

. . . . إذن فقد كانت آسيا الصغرى مهداً تقلب فيه الوليد الجديد وظل حيناً يتعثر، حتى استقام بعد لأي على قدمين لم ترسخا إلا في عسر شديد، فقد حدثتك في فصل سابق أن العقل الناشئ لم يكد يستيقن من وجوده، حتى أرسل البصر يستطلع أصل الوجود، وجاهد ما استطاع لكي يصل في تعليله إلى مبدأ معقول، فالتمسه في الماء والهواء، ولكنه أفلس، ثم عدل عن مادة الكون إلى جوهره ومعناهن فأفلس كذلك، وهكذا لبث اليافع في عثاره، يستقيم ليكبو، ويكبو ليستقيم، حتى كانت غارة الفرس الداهمة، التي اجتاحت المستعمرة اليونانية في آسيا الصغرى، ففزع الفلاسفة رعباً، هاموا في فجاج الأرض فرادى يحملون قبس الفكر، حتى انتهى طرف منهم إلى بلاد اليونان. . .

أنظر! فهذي بلاد اليونان قد صاغها الله يدا مبسوطة، كأنما تريد أن تلقف بأصابعها الناتئة في مياه البحر حضارة القدماء من الجنوب والشرق، بسطت كفها فتناولت من مصر مدنية كانت حينئذ قد بلغت شأوا بعيداً، واستعارت من بابل وأشور وآسيا الصغرى شذرات منثورة من العلم والمعرفة. . وقد أراد الله لتلك البلاد اليونانية أن تكون وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزون وترتفع الجبال، فانحصرت بين شعابها طائفة من الأودية، كانت في عزلتها كالأوكار، نشأت في أكنافها مدن متفرقة، ليس إلى اتصالها سبيل هين ميسور، فسلكت كل واحدة منها طريقاً بعينها في الدين والثقافة ونظام الحكم. ولبثت تلك المدائن متنافرة متناكرة، لا تلتقي في وحدة قومية، اللهم إلا إذا أغار عليها مغير يطمع منها في غزو وسلطان. وذلك ما حدث عندما جاءت من الشرق جيوش الفرس يقودها عظيمهم دارا، عندئذ انعقدت الخناصر على التحالف بين اثنتين من تلك المدن اليونانية، كانتا أشدها بأساً، وأوفرها قوة وأبلغها رقياً وتقدماً، تحالفنا على ان تعد إحداهما الجيش، والأخرى تهيئ الأسطول، ومن ذا تظن أن ينهض بتهيئة أسطول ضخم قوي غير الأثينيين، الذين لهم من موقعهم صلة وثيقة بالملاحة وركوب الموج، وأما الأخرى - إسبرطة - التي عرف رجالها بالبأس والقوة، فقد جهزت جيش الدفاع.

وقعت الحرب وانتصر اليونان، فعاد الأثينيون بأسطولهم وقد اتخذوه بعدئذ إدارة للتجارة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>