ظلت تجوب جواريه المنشآت في جوف البحر الأبيض، تحمل منها واليها التجارة من كل صوب، وما هي إلا أن تزخر أثينا بتك التجارة الصادرة الواردة، ويعلو ذكرها في الأسواق، وتصبح مركزاً تلتقي عنده الأقوام والأجناس، لكل قوم دينه، ولك جنس ثقافته. وإذا بهذه الألوان المختلفة يضطرب بعضها في بعض، ويخالط بعضها بعضا، فتمتزج الثقافات جميعاً والديانات جميعاً في صعيد واحد، ويكون لذلك كله نتيجة محتمة، هي المقارنة والتحليل، وبالتالي نشأة الفكر الصحيح. وهذا بديهي معقول، فالمذاهب المتضاربة ينسخ بعضها بعضاً، وتدنو بالناس إلى الارتياب والشك فيها جميعاً.
وإذن فقد كانت أثينا، عندما طوح القدر بذلك القبس الخافت من آسيا الصغرى بيئة صالحة وتربة خصبة، يستطيع أن يستقر في أرضها ذلك الشعار الضئيل، حتى إذا ما امتد به الزمان قليلا، سطع لامعا وهاجا في عهد الأساطين الثلاث: سقراط وأفلاطون وأرسطو
حمل انكسجوراس إلى أثينا تلك البذرة الأولى للتفكير الفلسفي وقد كانت وليدة الأفكار السابقة التي نشأت في آسيا الصغرى وجنوب إيطاليا. فلعلك تذكر أني وقفت بك في تتبع السلسلة الفكرية عند المذهب الذري، الذي رد الكون إلى ذرات دقيقة تجتمع وتأتلف فتكون هذا الشيء أو ذاك، ولكنك تستطيع أن تسأل أشياع ذلك المذهب، ما الذي يبرر عقلا أن تجتمع طائفة معينة من الذرات في صورة ما دون صورة أخرى؟ خذ الإنسان مثلا، فهو عندهم مجموعة ذرية لا أكثر ولا أقل، فهل تظن أن من اليسير على عقل منطقي أن يقنع بان تلك الذرات الجامدة تأتلف بطريق المصادفة العمياء، فتنتج ملايين الأفراد على غرار واحد وفي هذه الدقة من التنسيق؟! كلا! يستحيل ألا يكون وراء هذه الذرات المادية عقل مدبر حكيم، يملك تصرفها فيجمع بينها ثم يفرق جمعها تبعاً لما يقتضيه قصد معين وهدف منشود. . . في الكون إذن عنصران متميزان: مادة ترى بالبصر وتحس بالأيدي، وعقل خفي يكمن وراء أستار المادة، يسلك بها ما شاء من سبل، وهو حكيم رشيد، يعرف أين يسير بمادته في سبيل سواء. . هذا ما حمله انكسجوراس إلى أثينا، فبدأت الفلسفة إذن طوراً جديداً. . . لم يعد العقل يلتمس أصل الكون وعلته في ماء ولا هواء، ولم يعد يلتمسه في قاعدة رياضية، أو في ذرات تفترق وتلتقي على غير هدى، بل جاوز العقل في جولته حدود الطبيعة المحسة، وضرب فيما وراءهن وإذن فما أجدرنا أن نضع انكسجوراس في