مرتبة من تاريخ الفلسفة عالية رفيعة إذا كنا نفرق بين مراتب رجالها. فهو بين الفلاسفة أول من رأى في الكون رأيا ناضجا، يصرد عن رشد ووعي، بالقياس إلى أسلافه الذين لم تزد أقوالهم على سذاجة الطفولة الحالمة
ترى من هذا كله أن العقل قد لبث طويلا يبحث في حقيقة الكون فانتهى إلى نتائج متنافرة متباعدة، وتشعبت عليه السبل وكثرت الحلول، فكان طبعياً ان يقف منها جميعاً موقف الشك والريبة فكلها حق ان شئت. وكلها باطل ان شئت. ولنترك الكون وما يحوي لا نطرقه بالبحث الآن، وليكن موضوع بحثنا منذ اليوم هو الانسان، فهو سيد الأشياء، وهو وحده الفيصل الحكم إزاء هذه المذاهب الفكرية، يعتنق منها ما يشاء؛ ويطرح ما يشاء في زوايا الإهمال. وليس لأحد سلطان على أحد في ان يوحي إليه بفكرة أو رأي، فما تراه أنت حقاً فهو حق، وما تراه أنت باطلا فهو باطل. . ما تلمح فيه النفع لشخصك فهو الفضيلة العليا وكل ما يناقض هواك فهو رذيلة وشر، لا تأبه بتقاليد، ولا تصدق الناس فيما يذهبون إليه من خير وشر، فأنت دولة وأنت مالكها، لك أن تحكم فيها بما تشاء وتهوى. . . انظر! هذان رجلان يشخصان ببصريهما إلى الشمس تنحدر إلى خدرها ساعة الغروب فخلعت على الأفق غلالة حمراء، فيفتن جمالها واحداً منهما حتى ليكاد يطفر راقصاً مفتوناً بما يرى. وأما الآخر فينظر إليها شزرا واستخفافاً، بل انه ليسخر من صاحبه، فليس ثمة في الشمس جمال ولا شيء يشبه الجمال!! فمن ذا يستطيع أن يقنع أحد هذين بخطأ رأيه أو بصوابه؟ ولم لا يكون كلاهما على حق؟ وإذا كانت الأهواء والميول والمشاعر متضاربة متناقضة، لا تجتمع في نزعة واحدة، ولا يمكن أن تدور رحاها حول قطب واحد، أفلا يكون شططا منك واعتسافاً أن تقسر تلك المجموعة المتنافرة على أن تلتقي كلها عند حقيقة واحدة؟! ومن ترى يكون حقيقاً بمنصب الحكم بيني وبينك فيما نحن فيه مختلفان؟ كلا! ليس ثمت حقيقة واحدة، بل الحقائق في الدنيا بقدر ما يضطرب فيها من أفراد البشر، فليذهب كل فرد مذهبه في الكون وفي ظواهر الكون، ولا يخشين بأساً من نقد أو تجريح لما يذهب اليه، فهو لا يقل حقاً وصواباً فيما يرى عن أي رجل آخر، بالغاً ما بلغ من العبقرية والنبوغ. . . تلك هي العقيدة التي حملتها طائفة من الناس في أرض اليونان، وأخذت تجوب بها الأنحاء والأرجاء، تذيعها في الناس في ذلاقة وطلاقة وحسن بيان، حتى