اجتمع حولهم طوائف الشباب جميعاً، يتلقون عليهم ذلك الشك، ويتعلمون عنهم درائق التشكيك وأساليب المحاورة والمداورة في الخطابة والحوار لقاء أجر يعظم ويضؤل تبعاُ لما يتلقى الشباب من عدد الدروس. . . وإنما أعني بتك الطائفة جماعة السفسطائيين، ولم يكن ذلك الاسم عندئذ يحمل ما يحمله اليوم من تحقير، بل هم جماعة أحبوا الحكمة كما يحبها كل فيلسوف، لولا هذه الزلة التي سقطوا فيها فأسقطت من قدرهم، وهي تقويم الحكمة بالأجر
وأبرز أولئك السفسطائيين رجال ثلاثة: بروتاغوراس وجورجيادس وهبياس، ولقد أنكر ثانيهما وجود الأشياء جميعاً وحتى لو فرضنا جدلاً أن ثمة في الكون أشياء لها حقائق ثابتة، فلا يمكن أن نوقن بأن الصورة الذهنية التي نعرفها لتلك الأشياء مطابقة لها تماماً، فمن الجائز، بل من المرجح، بل من المؤكد أن حقيقة هذا القلم الذي بيدي تخالف في وجوه كثيرة صورته الذهنية التي أحملها له. . . وهب أنك تستطيع أن تصل إلى معرفة مطابقة للواقع فانه يستحيل عليك أن تنقل هذه المعرفة للآخرين، لأنك مضطر إلى التعبير عنها في كلمات، ولا أحسب في الدنيا أحدا يشك في أن اللفظ شيء والمعرفة نفسها شيء آخر وإذن فمهما قلبت الأمر على وجوهه فلن تصل إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنه لا يمكن أن يكون في الوجود حقيقة موضوعية مجردة يجمع عليها، بل الحقائق ذاتية تختلف باختلاف الأشخاص، وإذن فمن العبث أن يستمع فرد إلى رأي فرد آخر، ولا يجوز لك أن تصغي لغير ما تراه وتشعر به، ولا تختار من كل ذلك إلا ما تصيب عنده نفعاً
أجمع السفسطائيون على ذلك، ولكنهم ذهبوا في السياسة مذهبين: ففريق يدعو إلى العودة إلى أحضان الطبيعة واستيحائها فيما يجب أن يرسم للجماعة من نظام وقانون - كما فعل روسو فيما بعد - ولما كانت الطبيعة عندهم تسوى بين الأفراد، لا ترفع أحدا ولا تخفض أحداً، إذن فسحقاً لهذه المدنية التي تجعل من الناس طبقات بعضها فوق بعض، فذلك نظام مفتعل دخيل على طبيعة الإنسان جدير بنا ان ننبذه في جرأة حازمة، ولا ينبغي لنا أن نأبه لهذا القانون الذي تواضعت عليه الجماعة، لأنه من وضع القوى، فرضه على الضعيف فرضاً لا يبرره حق ولا تجيزه عدالة، إنما القانون العادل هو الذي ينزل الأفراد منزلة سواء، ومعنى ذلك أن تكون الديمقراطية مثلا أعلى للحكم.