جلست إلى دواوين الشعر التركي أقلب الأجيال بين يدي: أطالع مرة وجه (نجاتي) و (ذاتي) وأنظر أخرى إلى (باقي) و (نفعي) وثالثة أرى (نديما)(وراغب باشا) و (الشيخ غالب) ثم أعمد إلى العصور الأخيرة فإذا اسناسي و (نامق كمال) و (ضيا باشا) و (توفيق فكرت) و (عبد الحق حامد) وغير هؤلاء.
وبينا أطوي العصور باللمحات، وأقلب الأجيال تقليب الصفحات، بصرت (بالصفحات) ديوان الشاعر الكبير صديقي الكريم محمد بك عاكف. فسارعت إلى الجزء الأول فانفتح عن قطعة عنوانها (الزامر الأعمى) فقرأتها ثم عمدت إلى القلم فترجمتها نثراً إذ ضاق الوقت دون نظمها وأنا أقدمها للقراء كما جاءت عفو البديهة في الاختيار والترجمة:
الزامر الأعمى
كنت أرى هذا السائل الضرير، يتأبط ذراع قائده، وفي يده قصبة عتيقة، ينبعث منها صوت قوي، كأنه النواح في المأتم. ويمر به الناس فيقفون ويستمعون رحمة به ورثاء له. ثم يلقي كل منهم إلى كشكوله البائس الذليل خمس بارات أو عشراً.
كان يبعث أناته في قصبته المرضوضة فينبعث إلى أذنه في رنين العشرات والخمسات صدى البشرى، ورسالة المودة، رنات لا تفنى في أنين الناي الحزين، ولكنها تؤلف نغمة أخرى تسايره. كم أحزنني هذا الصوت! وكم أمضني ذلك المرأى الأليم!
إنه من دهره في ليال متتابعة مديدة، لا يتنفس في آفاقها المظلمة صبح، ولا يلوح في وجهه لمحة من النور، تحدث عن بسمات الرجاء والأمل. كلا. إن هذا لوجه الأغبر، هذا الوجه التعس قد أقتمت فوقه سحب متراكمة من الشقاء: ماضيه ظلام، وظلام مستقبله. سله عن الحياة فهي حقيقة مظلمة مديدة. تراها نظراته حجابا من الظلمات دون حجاب. انه لا يبصر المصائب، ولكن كل شيء حوله مصيبة، يمتد به العمر الشقي في هذا العالم البائس،