قرأت مقال الأستاذ الزيات الذي عنوانه (دفاع عن البلاغة)، فوقع في نفسي على القبول والاستحسان، وألفيته ترجماناً عن معان ترددت في نفسي ورددها لساني، وذكرني بحديث تحدثت به في دمشق في دار الأستاذ الصديق العلامة محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي
أذكر أني جلست والأستاذ مرة فأخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وأفضنا في أمور شتى حتى دفعنا في الكلام عن الأدب وما عرض له من آفات، وما حاق به من مساوئ الاتجار، ومسايرة الآلات الحديثة عجلة واندفاعاً، ومن تملق الجمهور بالإسفاف إليه، والتيسير عليه، وإمتاعه وتلهيته بما يلائم القراءة العجلى والنظرة السريعة، وقد أجملت هذا كله في كلمة، فقلت:(قد غلبت السوقية على الأدب) قال الأستاذ: أصبت المحز بهذه الكلمة، وأحسنت التعبير عما يسميه الفرنسيون:
وبيان هذا أن الآلات الحديثة يسرت الصناعة، وعممتها، وزوقتها، ولبست الجيد الثمين والرديء الرخيص في بعض المظاهر. فطمح كل في اقتناء الأمتعة التي كان لا يطمع فيها إلا الأغنياء، وطمع الفقراء في منافسة الأثرياء بأمتعة تقارب أمتعتهم أو تشبهها شكلا ولوناً، وقابل الصناع والتجار هذا الطموح وذاك الطمع بما يسده من بضاعة مزيفة مزينة خداعة، وكسدت الصناعات اليدوية الجيدة التي تكلف الصانع عمل الأشهر أو السنين، وأعرض الناس عنها مشفقين من تكاليفها. فمن لم يملك ثمن الحرير الطبيعي أو لم تسخ يده به عمد إلى الحرير الصناعي، ومن لم يستطع اقتناء الذهب اقتنى المذهب أو المموه. ومن لم يتسع ماله لاشتراء الماس اشترى ما يشبه الماس، ومن لم يقدر على اللؤلؤ البحري لجأ إلى اللؤلؤ الصناعي، وهلم جرا. فشاع بين الناس الصناعي إلى جانب الطبيعي، والمقلد إلى جانب الأصلي، والسوقي إلى جانب المتصنع، والزيوف إلى جانب الجود، والبهرج بجانب الصحيح
والعلم على هذا القياس، فقد تولت الحكومات التعليم فيما تولت، فحددت زمانه ومكانه وموضوعه ودرجاته، وخطت الخطط لتعميمه، وجعلت له شهادات تشهد لصاحبها بالعلم