وعلى من لا يحملها بالجهل، وحشر إلى دور العلم الراغب والكاره والأهل وغير الأهل، ووجه الأحداث الوجهة التي يريدها العرف أو النظام أو الضرورة لا التي تميل إليها نفسه، وتختارها مواهبه. وجرف التيار الناس، فصارت المدارس مصانع تصنع التلاميذ على قوالب متماثلة أو متشابهة، أو مطابع تخرج آلاف النسخ من كتاب واحد، وتقدم أصحاب الشهادات إلى الأعمال كما تعرض السلع في الأسواق
قال بعض السامعين: أليس نشر العلم وتعميمه خيرا للناس؟ قلت لا ريب إنه خير ولكن معه شرا هو الذي حدثتك عنه. ولست أبغي الآن أن أفيض في هذا الداء وأدويته ولكن ساقنا إليه الحديث في الأدب
قال أحد الأصحاب وهو الحديث الذي بدأناه ثم حدنا عنه فلم نعد إليه
قلت: والأدب على هذا النسق. الجرائد والمجلات والكتب شاعت وانتشرت، وصار الكاتب بهذه الوسائل الحديثة السريعة يعرض على الناس ما يكتب وكأنه ماثل أمامهم يحدثهم به أو يخطب فيهم. فهو يسايرهم مسايرة المحدث أو الخطيب، ويلقاهم كل يوم على صفحات الصحف، يلتمس رأيهم فيما كتب، ويتعرف موقعه من نفوسهم. وكلما أرضى الكاتب جمهرة القراء سمع ثناءهم عليه وإكبارهم إياه فحرص على هذا الرضا رغبة في علو المكانة وبعد الصيت. واضطر إلى أن يسف إليهم دون أن يرفعهم إليه، وأن يجاريهم دون أن يصدهم عما يشتهون، وأن يلاينهم دون أن يحملهم على ما يكرهون أو يكبحهم عما يهوون، وأن يلهيهم ويضحكهم لا يشق عليهم ولا يسومهم عناء. فكأن الكاتب تاجر وكأن كتابته سلع في الأسواق أيضاً. والتاجر يلتمس لكل سوق ما يروج فيها. والرديء الرائج خير له من الجيد الكاسد.
ووراء هذا أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع يبغون الربح في تجارتهم، والربح على قدر إقبال الجمهور على ما يخرجون، وإقبال الجمهور على قدر هواه ومتعته ولهوه. فالكاتب الذي يرضي الجمهور ويمتعه ويلهيه أقرب إلى أصحاب الصحف والمكتبات والمطابع، يبذلون له المال، ويسارعون إلى نشر ما يريد. على حين يجفون الكاتب المبدع الذي يحمل الناس على المكره، ويقودهم على الطريقة التي فيها صلاحهم وإن نفروا عنها نفور المريض من الأدوية الكريهة.