قال صاحبي الملول: وما وراء هذا؟ قلت: وراءه ما زعمته أول الحديث من غلبة السوقية في الأدب؛ فقد صار بضاعة في السوق أو تلهية في الملاهي، أروجها أقربها إلى عقول الناس، وطباعهم وإن تفهت وحقرت، وانتهت بهم إلى المهالك. وأكسدها ما علا عن إدراك العامة وأشباه العامة، وما اقتضى فهمه عقلاً وعلماً وضاق عن الجمهور ووسع الخاصة وحدهم. فمن شاء مالاً ورواجاً وصيتاً ومكانة عند العديد الأكثر فليطلع على الناس كل يوم بقصة أو نادرة أو ملهاة مما يقرأ في القطار والترام وحين انتظارهما؛ وليتجنب الموضوعات التي تحوج القارئ إلى الجد والكد، والألفاظ التي تحتاج إلى علم باللغة واسع، والأساليب التي تقتضي التمهل والتأمل لإدراك ما فيها من جودة وبراعة وجمال.
ومن ابتغى إصلاح الجمهور وتهذيبه وتعليمه وشاء الخير العام للناس، ورغب في الحقيقة والجمال لا يبالي أين يقعان من نفوس الدهماء فلا يتعجلن المكانة والصيت والمال وليكتب ابتغاء مرضاة الله، وليدع إلى الخطة الرشيدة، وليسم إلى مستوى الحق والخير والجمال، وليبلغ ما يوحي إليه ربه، ويهدي إليه قلبه. وإن طمع في المكانة وحسن الأحدوثة فليعلم إنه منته إليهما لا محالة؛ ولن يضيع الخير والحق والإجادة والإتقان على مر الزمان، ولن يذهب العرف بين الله والناس.
فإن سأل سائل: أتريد الناس كلهم على قراءة الأدب الرفيع والفلسفة العالية؟ قلت لا لا، بل أريد ألا تتحكم السوقة في الأفكار والأقلام، وألا يطغى الرواج على الجودة. أريد أن يؤدي الكاتب أمانته، ويبين عقيدته، غير حاسب حساب السوق، وليكن بعد هذا في الكتابة ما يلائم العامة وما يلائم الخاصة، وما يجمع بينهما. أريد أن يعلو الكاتب ما مكنه طبعه، وأن يدق ما شاء له فنه، لا يعنيه إلا أن يؤدي واجبه على الوجه الأكمل. وكذلك أريد أن ينزل الكاتب الآخر كما يريد طبعه، وأن يسهل ويدنو كما يشاء فنه. لكل وجهة، ولكل مجال، ولكل قراء. وإذا صدق كل كاتب نفسه، وأخلص لعمله، فرقت الكتاب المعارف والطبائع؛ فعلا جماعة وهبط آخرون، وبعد كاتب وقرب آخر، وكانت ضروب الكتابة معربة عن ثقافة الأمة وأذواقها، ملاقية أصناف الناس بما يسد حاجاتهم، ووجد الناس الصعب والسهل، والبعيد والداني، والغالي والرخيص، كلاً في بيئته وفي مظانه. لا أدعو إلى أن يصير الأدباء فناً واحداً في البيان وأسلوباً عالياً في الكتابة، ولكن أخشى أن تذهب السرعة