للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بين حراء. . . وعرفات]

للأستاذ عبد المنعم خلاف

وقف الرجل الذي تلخص فيه مجد الإنسان وتحقق به وشاع منه على عرفات في حجة الوداع، وقد احتشدت حوله في ذلك الرحب الصامت الرهيب الذي فيه أول بيت وضع للناس، الأزمان والدهور وأرواح الملأ الأعلى والرسل والحكماء وأعضاد الإنسانية وحاملي المشاعل على طريقها، وأفواج الخلائق من عالم الذر والبرزخ، وأجساد أولئك المتجردين من لبس المحيط والمخيط من صحابته المخبتين. . ومن فوق الحشد الخفي والمستعلن ينظر وجه الله ذو الجلال إلى عبده ورسوله وهو يلقي الكلمة الخاتمة البلاغ الأخير بالآيات المنزلة من حول العرش: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). . . ويعلن حقوق الإنسان وواجباته ويسأل الجموع المحشودة: هل بلغت؟ فتردد البطاح والأودية والشعاب التي كان يأوي إليها في طلب الهدى ثم في التخفي بالدعوة ثم في الجهاد لها - الجواب الإجماعي في إقرار وشكران

وما بد من أن الكلمة الأولى: (اقرأ باسم ربك. . .) التي طالعه بها الوحي في (حراء) كانت تتردد على سمعه في تلك البرهة الخالدة، فتتوالى أمام مخيلته عزائم جهاده في الأرض التي كان كل قديس فيها رجسا، وكل بَرَّة فَجْرة، وكل امرئ آثما في عقيدة القلب، خرفاً في رأى العقل، ضارياً في معاملة الخلق، طفلا في طقوس العبادة. . . أيام أن كان يتخفى بالغار في حيرة وانفراد ورهبة وصمت وشك وفراغ، وأعصاب مرهفة، وقلب مفجوع بالضلالات المعقدة، وعقل عظيم، ولكنه أمي ينظر إلى كون مبهم مختلط نظرا لا يقع إلا على قمم الجبال وصفرة الرمال وأمم تحنو على أصنام من الأناسي والأحجار والأخشاب، ومواكب من النجوم تبدأ كل يوم من الشرق وتروح إلى الغرب في قهر وصمت وطواعية ووجوم. . . وهو ذا الآن على عرفات في استعلانٍ ومعرفة وحشدٍ وطمأنينة وضجة ويقين وامتلاء في العقل من عالم الشهادة، وفي الروح من عالم الغيب، وفي اليد من أجساد العباد الذين لم يؤمنوا به حتى أحبوه أكثر من نفوسهم التي بين جنوبهم، فهم في يده يقذف بهم على كل أفق وتحت كل كوكب ليكونوا امتدادا منه وظلا من دعوته. . وقد امتلأ قلبه بالأمل الواثق بان الله متم نوره ومعل كلمته. وقد شبع عقله من جوع إلى المعرفة واتصلت به شرارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>