الوحي، وانتهت إليه ينابيعه فأضاء وصفا وعمق، ففيه لبني الإنسان الهدى والحلي والطهر.
وقد تعوض نظره من رءوس الجبال التي حول حراء، برءوس خاضعة من النساء والرجال الذين رباهم ثلاثا وعشرين حجة في كل يوم بآية من الكتاب أو جملة من بيانه أو فعلة من سلوكه أو إيماءة أو صمت. . حتى صقلوا وصاروا أناسا كالنجوم المصابيح.
بين الكلمة الأولى الآمرة المغرية المثيرة لعقله وروحه بقصة خلق الإنسان ذلك الكون العجيب من علق، وقصة القلم ذلك الشيء العجيب الذي يجعل الدنيا كلمات بين البنان واللسان:(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربُّك الأكرمُ الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وبين الكلمة الأخيرة المخبرة الهادئة الممتنة بكمال الدين واختيار الطريق: (اليوم أكملت لكم دينكم. . .). . . دار الفلك ثلاثا وعشرين دورة على محور من ذلك الرجل الذي كان عقله مرآة لما يدور في السماء حول صلاح عمار الأرض. وهاهو ذا يقف معلنا (أن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) وأن حركة بدء واستهلال وولادة ثانية للإنسانية تتمخض عنها الأيام الوالدات. . .
وإنها لكلمة ثقيلة التبعات لأنها حديث عن ابتداء الزمن واستدارته كهيئته في اليوم الأول.! ومنذا الذي يجرؤ على الحديث بها إلا أن يكون نبيا؟
إذاً هو الأب الثاني للبشر ولدت منه الإنسانية ولادة روحية وعلية كما ولدت من آدم بالجسد. ألم يستدر الزمان معه كما بدئ مع آدم؟ ألم تبلغ البشرية به رشدها وتترك طفولتها وسفهها ووقوفها عند المجسمات من الأرباب والمعجزات؟ ألم يسلمها مفاتيح الطبيعة ويهب بها إلى الفكر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكيف بدأ الخلق؟ ألم يرفع الحجب والشفاعات بينها ويبن ربها الأقرب إليها من حبل الوريد؟ ألم يمح الفوارق بين أجناسها وألوانها وأوطانها كما يمحو الأب الحاني الفوارق بين بنيه من الجسد والروح؟ ألم ينهها أن تقفوا ما ليس لها علم وأن تتبع الظن الذي لا يغني من الحق شيئا؟ ألم يدعها إلى أن تؤمن بجميع الرسل والأنبياء وبما أنزل الله من كتاب؟ ألم يعلن حقوقها وواجباتها وأخوتها ومساواتها والعدل بينها؟ (لأن ربها واحد وأباها واحد) ألم يترك لها ميراثاً خالداً منظماً مستوعباً شؤونها وحيوانها في البيت والجماعة والحرب والسلم والعاجلة والآجلة؟