١ - الشعر الجاهلي الذي اتخذه الشعراء في مختلف العصور أصلاً يحتذون حذوه، وينهجون منهجه، ويبنون عليه ويقلدونه في مناحيه الفنية والأدبية تقليداً كبيراً، هذا الشعر هو الذي نريد أن نتحدث عن موقف النقاد منه آرائهم فيه، ومذاهبهم حياله، حديثاً يجمع من الإيجاز أطراف هذا الموضوع المتشعب الدقيق.
٢ - وأول ما نذكره في هذا البحث آراء الجاهلين أنفسهم في الشعر الجاهلي ونقده، وهذه الآراء كثيرة متعددة، طائفة منها تتحدث عن منزلة بعض الشعراء الأدبية في الشعر، وطائفة أخرى فيها نقد لبعض الشعراء.
فأنت تعلم أن كل قبيلة في الجاهلية كانت ترفع منزلة شاعرها على الشعراء، وتذهب إلى أنه إمامهم وأولهم في دولة الشعر، فكان اليمنيون يذهبون إلى أن امرأ القيس هو إمام الشعراء، وكأن بنو أسد يذهبون إلى تقديم عبيد، وتغلب تقدم مهللا، وبكر تقدم المرقش الأكبر، وأباد ترفع من شأن أبى دؤاد وهكذا. وكان أهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة، وأهل العالية لا يعدلون بالنابغة أحداً، وأهل الحجاز لا يعدلون بزهير أحداً، وكان العباس ابن عبد المطلب يقول على أمرؤ القيس وهو سابق الشعراء، ورأى لبيد أن أشعر الناس امرؤ القيس ثم طرفة ثم نفسه.
كما تعلم أن الجاهليين أنفسهم كانت لهم آراء كثيرة في نقد الشعراء. فكان النابغة تضرب له قبة حمراء في سوق عكاظ. فتأتيه الشعراء وتنشده أشعارها، أتاه الأعشى يوماً فأنشده، ثم أتاه حسان فأنشده، فقال: لولا أن أبا بصير - أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والأنس، فقال: حسان: والله لأنا أشعر منك ومن أبيك وجدك؛ فقبض النابغة على يده وقال: يا ابن أخي أنت لا تحسن أن تقول:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
ثم أنشدته الخنساء:
قذى بعين أم بالعين عوار ... أم أقفرت إذ خلت من أهلها الدار