يقف الأديب عند سرير جندي جريح عائد من ميدان القتال، فيثير فيه منظره معاني شتى للبطولة والتضحية. أو يدخل مصنعاً قد أنصرف فيه كل عامل إلى آلته، ومضت الآلات في عملها تنتج مسرعة، فيوحي إليه ما يراه بخواطر عن الدأب والنظام والتقدم. ويحاول أن يسجل إحساسه إزاء ما رأى، وأن ينقل هذا الإحساس إلى غيره، فينشئ مقالة أو يقرض قصيدة أو يؤلف قصة أو رواية، ويختار لذلك ألفاظه وأساليبه، بحيث تنقل إحساسه نقلاً صادقاً غير منقوص.
هذه المقالة أو القصيدة أو القصة أو الرواية هي العمل الأدبي، فهي الصلة بين الأديب والسامع أو القارئ، وبها أنتقل إحساس الأول إلى الثاني. ونستطيع أن نعرف العمل الأدبي بأنه (التعبير عن تجربة للأديب بألفاظ موحية)، والتعبير بالألفاظ هو الذي يميز الأدب من باقي الفنون الجميلة، لأن الأدب يعبر باللفظ، بينما تعبر الموسيقى بالصوت، والرسم باللون، والنحت بالحجارة.
ونعني بالتجربة كل ما جربه الأديب ومر بنفسه من شعور، سواء أكان حقيقياً أم متخيلاً، فقد تكون حادثة صادفت المنشئ في حياته أو صادفت غيره، وقد تكون قصة سمع بها، أو منظراً رآه، أو فكرة عرضت له، أو وهماً مر بخياله، ومن هنا كان كل شئ في الحياة صالحاً لأن يكون مادة للأديب، يتخذ منها صوراً لبيانه، على شريطة أن يكون قد امتزج بشعوره وملك عليه جوانب نفسه، ودفعه إلى الكلام، ولهذا وجب أن يكون في التجربة أمر غير عادي مألوف، وأن تكون ذات قوة ممتازة، وشدة خاصة، حتى تبعث في الأديب القوة الضرورية لمجهود أدبي يستطيع به أن يصف التجربة في صدق ودقة، وإتقان وبراعة، وبذلك يستطيع أن يبعثها مرة أخرى في نفوس قارئيه.
هذا، وآن الحقائق العلمية، قد يمزج بها الأديب إحساسه، وينقلها بهذه الصورة إلى القارئ، فتصبح عملاً أدبياً رائعاً، كما سنرى فيما يلي:
إن التجربة لا تكون بسيطة أبداً، بل لابد أن تكون مكونة مما تحمله الحواس إلى الفكر، ومما يأتي به الفكر نفسه من معان يدعو بعضها بعضاً، فالواقف أمام نهر النيل مثلاً، لا